وصى يصي إذا وَصَلَ، فإذا قيل : أوصاني، فمعناه : أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه، وكذلك وَصَّى وهو على المبالغة.
وقال الزَّجَّاج : معنى قوله هاهنا ﴿يُوصِيكُمُ﴾ أي : يَفْرِضُ عليكم ؛ لأنَّ الوصية مِنَ الله إيجابٌ لقوله بعد نَصِّه على المحرمات ﴿ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام : ١٥١].
وقرأ الحسن وأبي عبلة ﴿يُوصِيكُمُ﴾ بالتَّشديد، وقد تَقَدَّمَ أنَّ أوْصَى ووصَّى لغتان.
قوله :﴿فِى أَوْلاَدِكُمْ﴾ قيل : ثَمَّ مضاف محذوف أي : في أولاد موتاكم.
قالوا : لأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُخَاطِبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولاده، ويُفْرَضَ عليه ذلك.
وقال بعضهم : إن قلنا إنَّ معنى ﴿يُوصِيكُمُ﴾ " يبين لكم " لم يحتج إلى هذا التقدير، وقَدَّر بَعْضُهُم قبل :﴿أَوْلاَدِكُمْ﴾ مضافاً، أي : في شأن أولادكم، أو في أمر أولادكم.
قوله :﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ﴾ هذه الجملة من مبتدأ وخبر، يُحْتَمل أن تكونَ في محلِّ نَصْبٍ بـ " يوصي " ؛ لأنَّ المعنى : يَفْرِضُ لكم، أو يُشَرِّع في أوْلادَكُمْ، كذا قاله أبُو البَقَاءِ، وهذا يقرب من مذهب الفرَّاء، فإنَّهُ يُجْرٍي ما كان بمعنى القول مُجْراه في حكاية الجملِ، فالجملةُ في موضع نَصْب بـ " يوصيكم ".
وقال مَكِّيٌّ :﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ﴾ ابتداءُ وخبر في موضع نصب تَبْيينٌ لِلْوَصِيَّةِ وَتَفْسِيرٌ لَهَا.
وقال الكِسَائِيُّ :" ارتفع " مثل " على حذف " أنَّ " تقديره : أنَّ للذكرِ مثلُ حظّ، وبه قرأ ابن ابيب عبلة، ويحتمل ألاَّ يكون لها محلٌّ من الإعراب، بل جيء بها للبيان والتَّفسير فهي جُملةٌ مفسِّرةٌ للوصيَّةِ، وهذا أحسن وجار على مذهب البصريين، وهو ظاهر عبارة الزمخشريِّ، فَإنَّهُ قال : وهذا إجمالٌ تفصيلُه ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾.
وقوله :﴿لِلذَّكَرِ﴾ لا بُدَّ من ضمير يعود على ﴿أَوْلاَدِكُمْ﴾ من هذه الجملة، فيحتمل أن يكون مجذوفاً أي : للذكر منهم نحو :" السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم " قاله الزمخشريُّ، ويحتمل أن يكون قام مقام الألف واللام عند مَنْ يرى ذلك، والأصل : لذكرهم و " مثل " صفة لموصوفٍ محذوفٍ أي : للذَّكَر منهم حَظٌّ مثلُ حَظِّ الأنثيين.
فإن قيل : لا يقال في اللُّغَةِ : أوصيك لكذا، فكيف قال هنا :﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ﴾ ؟.
فالجوابُ : أنَّهُ لما كانت الوصية قولاً، فلهذا قال بعد قوله :﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ قولاً
٢٠٨
مستأنفاً وهو قوله :﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً﴾ [الفتح : ٢٩] أي : قال لهم مغفرة ؛ لأن الوعد قولٌ.
فصل اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأوْلاَدِ ؛ لأنَّ تعلُّق الإنسان بولده أشدّ التّعلقات، وللأولاد حال من انفراد وحال اجتماع مع الوالدين.
فحال الانفراد [ثلاثة] إمَّا أن يَكُونُوا ذكوراً و إناثاً، أو ذكوراً فقط، أو إناثاً فقط، فإنْ كانوا ذكوراً وإناثاً فقد بَيَّنَ اللهُ تعالى حكمهم بقوله :﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ فبين تعالى أن للذكر مثل ما للأنثى مرتين.
قوله :﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً﴾ الضمير في " كُنَّ " يعودُ على الإناثِ اللاَّتي شَمَلَهُنَّ قوله :﴿فِى أَوْلاَدِكُمْ﴾.
فإنَّ التَّقدير : في أولادكم الذُّكور والإناث، فعادَ الضَّمِيرُ على أحد قِسمي الأولادِ، وإذا عاد الضَّمِيرُ على جمع التكسير العاقل المراد به مَحْضَ الذُّكور، وفي قوله عليه السَّلام " ورب الشياطين ومن أضللن " لعوده على جماعة الإناث، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسير المشتمل على الإناث بطريق الأوْلى [والأحرى]، وهذا معنى قول أبي حيَّان : وفيه نَظَرٌ لأن عوده هناك كضمير الإناث إنما كان لمعنى مفقودٍ هنا وهو طلب المشاكلة لأنَّ قبله " اللهم رب السموات ومن أضللن الأرضين وما أقللن " ذَكَر ذلك النحويون.
وقيل : الضَّمير يعود على المتروكات أي : فإن كانت المتروكات، وَدَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه، قاله أبُو البقاء ومكيٌّ وقدَّره الزمخشريُّ : فإنْ كانت البنات أو المولودات.
فإذا تقرر هذا فـ " كُنَّ " كان واسمُها و " نسَاءٌ " خبرها، و " فوق اثنتين " ظرف في فائدةٌ، ألا ترى أنَّه لو قيل :" إنْ كان الزيدون رجالاً كان كذا " لم يَكُنْ فيه فائدةٌ.
وأجاز الزَّمخشريُّ في هذه الآية وَجْهين غريبين : أحدهما : أن يكون الضمير في " كُنَّ " ضميراً مبهماً، و " نساء " منصوبٌ على أنَّهُ تفسيرٌ له يعني : تمييزاً، وكذلك قال في الضَّمِير الَّذي في " كَانَتْ " من قوله :{وَإِن كَانَتْ
٢٠٩