أنّ من الناس من قال : المراد من السُّجود التَّواضع لا وضْع الجَبْهَةِ على الأرض، وإن سلم أنه وضع الجبهة لكنه قال : السُّجود لله وآدم قبله، فزال الإِشْكَال، وإن سلم أن السجود كان لآدم، فلم قلتم : إن ذلك لا يجوز من الأشرف ؟ وذلك لأن الحكمة قد تقتضي إظهار نهاية الانقياد، والطاعة، فإن للسلطان أن يجلس عَبْداً من عبيده، ويأمر الأكابر بخدمتهن ويكون غرضه إظهار كونهم مُطِيْعِين مُنْقَادين له في كلّيات الأمور، وأيضاً فإن الله - تعالى - يفعل ما يَشَاءُ، ويحكم ما يريد، فإن أفعاله غير معلّلة، ولذلك قلنا : إنه لا اعتراض عليه في خلق الكُفْرِ في الإنسان، ثم يعذبه عليه أبد الآباد، وإذا كان كذلك، فكيف يعترض عليه في ان أمر الأعلى بالسجود لمن هو دونه.
وأما الحجّة الثانية فجوابها أن كون آدم خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم - عليه السلام - كان أَشْرَفَ من كل من في الأرض ولا يدلّ على كونه أشرف من ملائكة السماء.
فإن قيل : فَلِمَ لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض ؟ قلت : لوجوه : منها أن البشر لا يطيقون رُؤْيَةَ الملائكة، ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل.
وأما الحجّة الثالثة : فلا نسلّم أنّ آدم كان أعلم منهم، وأكثر ما في الباب أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان عالماً بتلك الُّلغات، وهم ما علموها، لكنهم لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء، مع أن آدم - عليه السلام - ما كان عالماً بها ويحقق هذا أن محمداً - عليه أفضل الصلاة والسلام - أفضل من آدم - عليه السلام - مع أن محمداً ما كان عالماً بهذه اللُّغات بأسرها، وأيضاً فإن " إبليس " كان عالماً بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم من الجَنّة، وأن آدم - عليه السلام - ليس كذلك، والهُدْهُد قال لسليمان صلوات الله وسلامه عليه :﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ [النمل : ٢٢] ولم يكن أفضل من سُلَيْمَانَ، سلمنا أنه كان أعلم منهم، ولكن لِمَ لَمْ يجز أن يقال : إن طاعنهم أكثر إخلاصاً من طاعة آدم عليه الصلاة والسلام ؟.
وأما الحجة الرابعة : فهي قويّة.
وأما الخامسة : فلا يلزم من كون محمّد - عليه الصّلاة والسلام - رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله تعالى :﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ﴾ [الروم : ٥٠] ولا يمتنع أن يكون - عليه الصلاة والسلام - رحمةً لهم من وجه، وهم يكونون رحمة له من وجه آخر.
وأما الحجّة السادسة : وهي أن عبادة البشر أشقّ فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصُّوفية يتحمّل في طريق المُجّاهدة من المَشَاقّ والمتاعب ما يقطع بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يتحمّل مثلها مع أنا نعلم أن محمداً عليه الصلاة والسلام أفضل من الكل.
أما الحُجّة السَّابعة : فهي جمع بين الطَّرفين من غير جامع.
فإن قيل : فإذا لم يكن افضل منهم، فما الحكمة بالأمر بالسجود له ؟ قيل له : إنَّ الملائكة لما استعظموا تَسْبِيْحَهُمْ، وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريه استغناءه عنهم، وعن عبادتهم.
وقال بعضهم : عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به، فأمروا بالسجود له تكريماً، ويحتمل أن يكون إنما أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة : ٣٠].
فإن قيل : فقد استدلّ ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - على فضل البشر بأن الله - تعالى - أقسم بحياة مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام فقال :﴿لَعَمْرُكَ﴾ [الحجر : ٧٢] وأمنه من العذاب لقوله :﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح : ٢]، وقال للملائكة :﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إله مِّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء : ٢٩].
قيل له : إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بِحَيَاةِ نفسه سبحانه فلم يقل :" لَعَمْري " وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدلّ على أنها أرفع قدراً من العرش، وأقسم بـ " التِّين والزَّيْتُون ".
وأما قوله سبحانه :" وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ " فهو نظير قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام :﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ [الزمر : ٦٥] وهذا آخر الكلام في هذه المسألة.
قوله :" إلاَّ إِبْلِيسَ " " إِلاَّ " حرف استثناء، و " إبليس " نصب على الاستثناء، وهل نصبه بـ " إلا " وحدها أو بالفعل وحده أو به بوساطة " إلاّ " أو بفعل محذوف أو بـ " أن " أقوال ؟ وهل هو استثناء متّصل أو منقطع ؟ خلاف مشهور.
والأصح أنه متّصل - وأما قوله تعالى :﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف : ٥٠]، فلا يرد ؛ لأن الملائكة قد يسمونه جنًّا لاجْتِنَابِهِمْ، قال الشاعر في سليمان :[الطويل] ٣٨٤ - وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً
قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٣