قوله :﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ﴾ الواو للحال، والجملة بعدها : في محل نصب، وأتى بـ " قد " ليقرب الماضي من الحال، وكذلك " أخذن " وقد مقدرة معه لتقدم ذكرها، وأصل أفْضَى ذهب إلى فضاه أي ناحية سعته، يقال : فَضَى يَفْضُو فَضْواً، وأفضى : عن ياء أصلها واو.
وقال اللَّيْثُ : أفْضَى فلان إلى فلان أي : وصل إليه، وأصله أنه صار في فضائه وفرجته.
وقال غيره : اصل الإفْضَاءِ الوصول إلى الشيء من غير واسطة.
وللمفسرين في هذا الإفضاء قولان : أحدهُمَا : قال ابن عباس : ومجاهد، والسدي أنَّهُ كناية عن الجماع وهو اختيار الزجاج، وابن قتيبة، ومذهب الشافعيّ ؛ لأنَّ عنده أن الزوج إذا أطلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر، وإنْ خلا بها.
والثاني : أنَّ الإفضاء هو الخلوة وإن لم يجامعها.
وقال الكلبي : الإفضاء ان يكون معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، وهذا اختيار الفراء، ومذهب أبي حنيفةَ ؛ لأن الخلوةَ في الأنكحة الصحيحة تقرر المهر، واسْتَدَلُّوا على القول الأوَّّلِ بوجوهٍ : أحدها : ما تَقَدَّمَ عن الليث : أنه يصير في فرجته وفضائه، وهذا المعنى إنَّمَا يحصل في الحقيقة عند الجماع.
وثانيها : انه تعالى ذكر في معرض التعجب فقال ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قوياً في حصول الألفة والمحبّة، وذلك لا يحصل بمجرد الخلوة وإنَّمَا يحصل بالجماع، فيحمل عليه.
وثالثها : أن الإفضاء إليها لا بد وأن يكون مفسراً بفعل منه ينتهي إليه ؛ لأن كلمة " إلى " لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليبس كذلك ؛ لأن عند الخلوة المحضة لم يصل كل واحد منهما إلى الآخر فامتنع تفسير قوله :﴿أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ بمجرد الخلوة.
وإنْ قيل : إذا اضطجعها في لحافٍ واحد ملامساً فقد الإفْضَاء مِنْ بعضهم إلى بعض ؛ فوجب أن يكون ذلك كافياً وأنتم لا تقولون به.
٢٦٨
فالجَوَابُ أنَّ القائل بذلك قائلان : قائل يقول : المهر لا يتقرر إلاَّ بالجماع، وآخر يقول : يتقرَّر بمجرد الخلوة ولا يقولُ أحَدٌ إنَّه يتقرر بالملامسة والمضاجعة فَبَطَلَ هذا القول بالإجماع، ولم يبق في تفسير الإفضاء إلاَّ أحد أمرين : إمَّا الجماع، وإمَّا الخلوةَ، وقد أبطلنا القول بالخلوة بما بيناه فلم يبق إلاَّ أن المراد بالإفْضَاءِ الجماع.
ورابعها : أنَّ المهر قَبْلَ الخُلْوَةِ ما كان مُتَقَرِّراً، وقدو علّقَ الشَّرع تقريره على إفضاء البعض إلى البعض، وقد اشتبه في المُرَادِ بهذا الإفضاء هل هو الخُلوة، أو الجماع، وإذَا وقع الشكُّ وجب بقاء ما كان على ما كان والأصل براءة الذمة.
احتج من قال : بأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر وتُوجِبُ العدةَ دخل بها أوْ لم يدخل بها بما رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عن [ابن] ثوبان، قال رسول الله ﷺ :" مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأةٍ ونَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ " وقال عمر : إذَا أغْلَقَ باباً وأرخى ستراً وأرى عورة فقد وجب الصداق، وقضى الخلفاء الراشدون أنَّ من أغلق باباً، وأرخى ستراً فقد وجب الصداق وعليها العدة.
قوله ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُ﴾ في منكم زوجان : أظهرهما : أنه متعلق بـ " أخذن "، وأجاز فيه أبُو الْبَقَاءِ أن يكون حالاً من ميثاقاً قدّم عليه كأنه لما رأى أنَّه يجوز أن يكون صفة لو تأخر أجاز ذلك وهو ضعيف.
قال الحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة، والسدي، وعكرمة، والفراء : المراد بالميثاق هو قول الولي عند العقد : زوّجْتُكَها على ما أخذ للنساء على الرجال من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
وقال الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ ومُجَاهِدٌ : في كلمة النِّكَاحش المعقود عليها على الصداق
٢٦٩
وقال عليه الصلاة والسلام :" اتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ فَإنَّكُمْ أخَذْتُمُوهُنَّ بأمَانَةِ اللهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ ".
وقيل المراد بالميثاق الغليظ هو : إفْضَاءُ بعضهم إلى بعض وصفه بالغلظة لعظمة ما يحدث بين الزوجين من الاتحاد والألفة والامتزاج.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٦٣


الصفحة التالية
Icon