كُلِّ أحدٍ جميع أمَّهَاتِهم، وجميع بَنَاتِهِمْ، ومعلوم أنَّه ليس كذلك، بل المقصود أنه تعالى قابل الدمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفَرْدِ بالفَرْدِ، فَهَذَا يقتضي أن اله تعالى قَدَّ حرَّمَ على كُلِّ أحَدٍ أمّه خاصة، وأخته خاصة، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر.
خامسها : أنَّ قوله :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كَانَ أبداً موصوفاً بالحرمة، لكان قوله ﴿حُرِّمَتْ﴾ تحريماً لما هو في نفسه حرام، فيكونُ ذلك إيْجَاد الموجود، وهو محالٌ ؛ فثبت أنَّ المراد من قوله :﴿حُرِّمَتْ﴾ ليس تجديد التحريم، حتى يلزم الإشكال، بل المراد الإخْبَار عن حُصُولِ التحريم فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في ثبوت المطلوب.
فصل [حرمة الأمهات ثابتة من زمن آدم] حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم - عليه السلام - إلى زماننا ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأدْيَان الإلهَّة إلا ما نقل عن زرادشت رسول المجوس أنَّهُ قال بحله، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنَّهُ كان كذاباً، وأما نكاح الأخَوَاتِ فقد نُقِلَ : أنَّهُ كان مُبَاحاً في زَمَنِ آدم عليه السلام، وَإنَّمَا أبَاحَهُ الله للضرورة، وأنكر بَعْضُهُمْ ذلك، وقال : إنَّهُ تعالى كان يَبْعَثُ الجواري من الجنَّةِ ليتزوّج بهنَّ أبناء آدم عليه السَّلامِ، ويبعث أيضاً لبنات آدم من يتزوج بهن من الحور، وهذا بعيد ؛ لأنَّهُ إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من الجنة فحينئذٍ لا يكون هذا النسل من أوْلادِ آدم فقط، وذلك باطل بالإجماع.
فصل [سبب التحريم] ذكر العلماءُ أنَّ سبب التحريم منه أنَّ الوطءَ إذلالٌ وإهانةٌ، فإنَّ الإنسان يستحي من ذكره، ولا يقدمُ عليه إلاَّ في الموضع الخالي، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره، وإذَا كان الأمر كَذَلِكَ ؛ وَجَبَ صونُ الأمَّهات [عنه ؛ لأنَّ إنعام الأم] على الولد أعظم وجوه الإنعام ؛ فوجب صونُهَا عن هذا الإذلاَلِ، والبنتُ بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه، قال عليه السَّلام :" فَاطِمَةُ بضْعَةٌ مِنِّي " فيجبُ صونها عن هذا الإذلال، وكذا القول في البقية.
فصل كلُّ امرأةٍ يرجع نسبك إلَيْهَا بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمِّكَ بدرجة أو درجات سواءَ رجعت إليها بذكور، أو بإناث فهي أمُّك، ثمَّ هنا بحث، وهو أنَّ لفظ الأم إن كان حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات، فَإمَّا أنْ يكون لفظ الأمّ متواطئاً أو مشتركاً فإن كان متواطئاً أعْنِي أن يكون موضوعاً بإزَاءِ قَدْرٍ مُشْتَركٍ بين الأمّ الأصليَّة، وبين سائر
٢٨٤
الجدّات، فتكون الآية نَصاً في تحريم الأمِّ الأصليَّة وفي الجدَّات، وأمَّا إن كان لفظ " الأمّ " مشتركاً في الأم الأصليَّة وفي الجدّات فهذا تفريع على أنَّ اللَّفظ هنا على الكُلِّ، [وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصاً عليه، ومنهم] من لم يجوزه، والقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الوَضْعِ : أحدُهُما : أنَّ لفظ الأمِّ إنْ أُريد به ههنا الأم الأصليَّة فتحريمُ نكاحها هنا مستفادٌ بالنصّ، وَأمَّ تحريمُ نكاح الجدَّاتِ فَمُسْتَفادٌ مِنَ الإجماع.
٢٨٥
الثاني : أنَّهُ تعالى تكلم بهذه الآية مرَّتين، يريدُ في كلِّ مرَّةٍ مفهوماً آخر.
وَإنْ كان لفظ " الأمِّ " حقيقة في الأمّ الأصليَّة، مجازاً في الجدَّات، فقد ثبت أنَّهُ لا يَجُوزُ استعمال اللَّفْظِ الوَاحِدِ دفعةً واحدةً في حقيقته ومجازه معاً، وحينئذٍ يرجع الطريقان المذكوران [للأول]، وَكُلُّ أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو بدرجات، بإنَاثٍ، أو بِذُكُورٍ، فهي بنتُكَ، وهل بِنْتُ الابْنِ وبِنْتُ البِنْتِ تسمّى هنا حقيقة أوْ مجازاً ؟ فيه البحث كما في الأمِّ.
فصل هل زواج الرجل بأمه يوجب الحد قال الشَّافِعِيّ : إذا تزوَّج الرَّجُل بأمِّهِ ودخل بها، لزمه الحدُّ.
وقال أبُو حَنِيفَةَ : لا يلزم، حجة الشَّافِعِيِّ أنَّ وجود هذا النكاح وعدمه سواء، فَكَانَ هذا الْوَطْء زنا، فيلزمه الحدّ، وَإنَّمَا قلنا : إنَّ وجوده وعدمه سواءً ؛ لأنَّهُ تعالى قال ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ وقد علم من دين محمد ﷺ أنَّ المراد من هذه الآية تحريم نكاحها، وإذَا ثبت ذلك فنقولُ : الموجودُ ليس إلا صيغة الإيجاب والقَبُولِ، فَلَوْ حصل هذا الانعقاد، لكانَ هذا الانعقَادُ إمَّا أنْ يقالَ : إنَّهُ حصل في الحقيقة أو في حكم الشَّرع، والأوَّلُ باطل ؛ لأنَّ صيغة الإيجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى، والقبول لا يوجدُ إلا بعد الإيجاب، وحصولُ الانعقاد بَيْنَ الموجود والمعدوم محال.
والثَّاني باطلٌ ؛ لأنَّ اللَّه - تعالى - بيَّنَ في هذه الآية بطلان هذا العقد [قطعاً]، وإذا كان هذا العقد بَاطِلاً قطعاً في حكم الشَّرْعِ، فكيف يمكنُ القَوْلُ بِأنَّهُ منعقدٌ شَرْعاً ؟ فَثَبَتَ أنَّ وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة.
٢٨٦
فصل [حكم نكاح البنت من الزنا] قال الشَّافِعِيُّ - رضي الله عنه - : البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني.