والجوابُ أنْ يقال : إن هذه الآيةَ مشتملة على أنَّ المراد منها تحريم نكاح المتعة من ثلاثة أوجُهٍ : الأوَّلُ : أنَّهُ تعالى ذكر المحرمات بالنِّكاح أولاً في قوله ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ ثم قال في آخر الآية ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ كانَ المرادُ بهذا التحليل ههنا ما هو المراد هناك بالتَّحريم هو النِّكاح، فالمرادُ بالتحليل هنا أيضاً يجب أنْ يكون هو النِّكاح.
الثّاني : قوله تعالى ﴿مُّحْصِنِينَ﴾ والإحْصَانُ لا يكون إلاَّ في نكاحٍ صحيح.
الثالثُ : قوله ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ سمَّى الزِّنَا سِفَاحاً ؛ لأنَّهُ لا مقصود فيه إلا سفح الماء ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النِّكاح، والمتعة لا يراد منها إلاَّ سفح الماء فكان سفاحاً، هذا قول أبِي بكر الرَّازي، وفيه مناقشة.
أمَّا الأولُ : فإنَّهُ تعالى ذكر أصْنافاً مِمَّنْ يَحْرُمُ وَطْؤهُنَّ ثم قال ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ أي وأحل لكم وَطْءُ ما وراء هذه الأصناف، فأيُّ فساد في هذا الكلام.
وأمَّا الثَّاني : وهو أنَّ الزِّنَا إنَّمَا سمي سفاحاً ؛ لأنَّهُ لا يراد منه إلا سفح الماء فالمتعةُ ليست كذلك فإنَّ المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل اللَّه، لم قلتم إنَّ المتعة محرمة.
قال ابْنُ الخطيبِ : وَإنَّمَا الجواب المعتمدُ أن نقول : إنَّا لا نُنْكِرُ أنَّ المتعةَ كانت مباحة إنَّمَا الذي نقوله : إنَّها صارت منسوخَةً، وعلى هذا التقدير، فلو كانت [هذه الآية دالة على أنها مشروعة] [لم يكن ذلك قادحاً في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضاً عن تمسكهم بقراءة أبيّ وابن عباس، فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع] لكن نقول : إنَّ النسْخَ طرأ عليه، وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا، وقولهم إنَّ النَّاسخَ إمَّا أن يكون متواتراً، أو آحاداً قلنا : لعلَّ بعضهم سمعه ثم نسيه [ثم إن عمر - رضي لله عنه - لمّا ذكر في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه وسلموا الأمر له.
وقولهم :] إنَّ عمر أضاف النّهي عن المتعة إلى نفسه.
قلنا : قد بَيَّنَا أنَّهُ لو كان مراده أنَّ المتعة كانت مباحة في شرع محمَّدٍ ﷺ، وأنا أنهى
٣١٣
عنه ؛ لزمَ تكفيره، وتكفير كلّ مَنْ لا يحاربه وينازعه، ويفْضِي ذلك إلى تكفير جميع المؤمنين، وكلُّ ذلك باطل فلم يبق إلا أن يقال : كان مراده أنّ المتعة كانت مباحة في زمن الرَّسُولِ ﷺ، وأنا أنهى عنها لما ثبت أنَّهُ ﷺ نسخها، فهو ناقل للنَّسْخِ، لا أنَّهُ نسخ من عنده.
فصل قال القرطبيُّ : اختلف العلماءُ كم مرة أبيحت ونسخت ؛ ففي " صحيح مسلم " عن [عبد] الله قال :" كُنَّا نَغْزُو مع رسول اللَّهِ ﷺ ليس لنا نِسَاء، فقلنا : ألا نَسْتَخْصِي ؟ فنهانا عن ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّص لنا أنْ نَنْكِحَ المَرْأةَ بالثَّوْبِ إلى أجَلٍ " قال أبُو حَاتِم البُسْتِيُّ في صحيحه : قولهم للنبيِّ ﷺ " ألا نَسْتَخْصِي " دليل على أنَّ المتعة كانتَ مَحْظُورَةً قبل أنْ يبيح لهم الاستمتاع، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم عن هذا معنىً، ثم رَخَّص لهم في الغَزْوِ أن ينكحوا المرأة بالثَّوب إلى أجَلٍ ثمَّ نهى عنها عام خيبر ثم أذن فيها عام الفتح ثم حرمها بعد ثلاث فهي محرّمة إلى يوم القيامة.
وقال ابن العَرَبِيّ : وأمَّا متعة النَساء فهي من غرائب الشَّريعة ؛ لأنَّهَا أبيحت في صدر الإسْلامِ ثمَّ حرمت يَوْمَ خيبر، ثم أبيحت في غزوة أوْطَاسٍ ثُمَّ حرِّمت بعد ذلك، واستقر الأمر على التَّحريم، وليس لها أختٌ في الشَّريعة إلاَّ مسألة القبلة، فإنَّ النَّسْخَ طرأ عليها [مرتين] ثم استقرَّتْ بعد ذلك.
وقال غيره مِمَّنْ جمع طرق الأحاديث فيها : إنَّها تقتضي التَّحليلَ والتَّحْرِيمَ سبع مرات فروى ابن أبي عمرة : أنَّها كانت في صدر الإسلام.
وروى سلمةُ بْنُ الأكوع : أنَّها كانت عام أوْطَاسٍ، ومن رواية عليٍّ تحريمها يومَ خيبر، ومن رواية الرَّبِيعِ بْنِ سبرة إباحتها يَوْمَ الفَتْحِ.
قال القرطبيُّ وهذه الطرق كُلُّهَا في " صحيح مسلم " وغيره عن علي نَهْيَهُ عنها في غزوة تَبُوكَ وفي مصنف أبي داود من حديث الرَّبيعِ بْنِ سبرةَ النَّهي عنها في حجَّةِ الوَدَاعِ.
٣١٤