إذَا كَانَ يَوْمَاً ذَا كَواكِبَ أشْنَعَا
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٣٦
أي إذا كان اليوم يوماً، واختار أبو عبيدةَ قراءة الكوفيين، وقرأ الباقون " تجارةٌ " رفعاً على أنها " كان " التامة قال مكي " وأكثر كلام العرب أن قولهم " إلا أن تكون " في هذا الاستثناء بغير ضمير فيها يعود على معنى : يحدث ويقع، وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة.
وقوله :﴿عَن تَرَاضٍ﴾ متعلق بمحذوف لأنه صفة لـ " تجارة " فموضعه رفع أو نصب
٣٣٧
على حسب القراءتين، وأصل " تراض " " تراضِوٌ " بالواو ؛ [لأنه مصدر تراضي تَفَاعَلَ من رَضِيَ، ورَضِيَ من ذوات الواو بدليل الرُّضوان، وإنما تطرفت الواو بعد كسرة] فقلبت ياء فقلت : تراضياً، و " منكم " صفة لتراضٍ، فهو محل جر و " من " لابتداء الغاية.
فصل والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الجر الذي يعطيه الله تعالى للعبد عوضاً من الأعمال الصالحة.
قال تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف : ١٠] وقال ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ [فاطر : ٢٩] وقال ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ [التوبة : ١١١]، فسمَّى ذلك كُلَّهُ بيعاً وشراءً على وَجْهِ المَجَازِ، تشبيهاً بِعُقُود المبيعَاتِ الّتي تحصلُ بها الأغْرارُ.
فصل : كل معاوضة تجارة اعلم أنَّ كُلَّ مُعَاوَضَةٍ تجارةٌ على أيّ وجْهٍ كان العوض، إلا أنَّ قوله تعالى ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ أخرج منها كُلَّ عوضٍ لا يجوزُ شَرْعَاً من رباً وغيره أو عوض فَاسِدٍ كالخمرِ، والخَنْزِيرِ، وغير ذلِكَ، ويخرج أيضاً كُلُّ عقدٍ جائزٍ لا عوض فيه كالقرض والصَّدَقَةِ، والهِبَةِ، لا للثَّوابِ، وجازت عُقُودُ التَّبرُّعاتِ بأدلَّةٍ أخَر، وخَرَجَ منها دٌعاءُ أخيك إيَّاكَ إلى طَعَامِهِ، بآيةِ النُّورِ، على ما سيأتي إن شاء الله - تعالى -.
فصل قال القرطبيُّ : لَوِ اشْتَرَيْتَ فِي السُّوقِ شَيْئاً فقالَ لَكَ صًاحِبُهُ قبل الشِّرَاءِ ذُقْهُ، وأنت في حلٍّ، فلا تَأكُلْ منه ؛ لأن إذْنهُ في الأكْلِ لأجْلِ الشِّراءِ، فربما لا يقعُ بيعٌ، فيكونُ ذلك شُبْهَة، لكن لو وصف لَكَ فاشْتَرَيْتَ، فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيَار.
فصل قوله ﴿عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ أي : بطيبة نَفْسِ كلِّ وَاحدٍ على الوَجْه المَشْرُوعِ.
وقيل هو أن يخير كُلُّ وَاحدٍ من المُتابِعيْنَ صاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْع، فيلزمُ وإلا فلهما الخِيَارُ ما لم يَتَفَرَّقَا لقوله عليه السلامُ :" الْبَيْعانِ بالخيارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " أو يخير كُلّ واحد
٣٣٨
منهما صاحبَهُ متبايعاً على ذلك، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ، واعلم : أنَّهُ كَمَا يحلُّ المستفاد منَ التِّجارَة، فقد يَحِلُّ أيضاً المالُ المستفاد مِنَ الهِبَةِ، والوصيَّةِ والإرث، والصَّدَقَةِ، والمهر، ِ وأرُوشِ الجنايَاتِ، فإنَّ أسْباب المالِ كثيرةٌ سوى التِّجارة.
فإن قُلْنَا : الاستثناءُ مُنقطِعٌ، فلا إشْكالٌ ؛ لأنَّهُ تعالى ذَكَرَ هَاهُنا شيئاً واحداً، من أسْبَابِ المِلْكِ، ولم يذكره غيرهُ بنفي، ولا إثْبَاتٍ.
وإن قلنا : الاسْتثناء مُتَّصِلٌ كان ذلك حكماً بأنَّ غيرَ التِّجَارةِ لا يفيد الحلّ، وعلى هذا لا بُدّ مِنَ النَّسْخِ، والتَّخْصيصِ.
فصل ذهب بعضُ الْعُلَمَاءِ إلى أنَّ النَّهْيَ في المعاملات يَقْتَضِي البُطْلاَنَ، وقال أبُو حنيفَةَ : لا يَدُلُّ عليه واحتجّ الأوَّلُونَ بوجوهٍ : أحدُهَا : أنَّ جميعَ الأمْوالِ مملوكةٌ للهِ تعالى، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التَّصَرُّفَاتِ، ثم إنَّ الوكِيلَ تَصَرّفَ على خِلافِ قَولِ الموكل، فذلك غير مُنعقدٍ، فإذا كان التَّصرفُ الواقع على خلاف قول المِالِكِ المجازي لا يَنْعَقدُ، فالتصرفُ الواقِعُ على خِلاَفِ قَوْلِ المالِكِ الحقيقيّ غير مُنْعَقِدٍ بِطَرِيقِ الأوْلَى.
وثانيها : أنَّ التصرُّفات الفَاسِدَة ؛ إمَّا أن تكُونَ مُسْتَلْزَمَةً لِدُخُولِ المُحرَّم المنهيّ في الوُجُودِ أو لا، فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياساً على التصرفات الفاسدة، والجامِعُ السعي في ألا يَدخُلَ منشأ النَّهي في الوُجُودِ، وإنْ كانَ الثَّانِي ؛ وَجَبَ القَوْلُ بصحَّتها قياساً على التصرُّفَاتِ الصَّحيحةِ، والجامعُ كونُهَا تَصرُّفَاتٍ خالية عن المفْسَدَة، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من وُقُوعِ التَّصرُّفِ على هذين الوجْهَيْنِ، فأمَّا القَوْلُ بتصرف لا يكُونُ صحيحاً، ولا باطلاً، فهو محال.
وثالثها : أنَّ قوله :" لا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بالدِّرْهَمَيْن " كقوله :" لا تبيعوا الحر بالعبد " فكما أن هذا نهي في اللفْظِ، لكنَّهُ نَسْخٌ للشَّرعيةِ [فكذا الأوَّلُ، وإذا كان نَسْخاً للشَّرْعيَّةِ]، بطل كونُهُ مُفيداً للحكم.
٣٣٩


الصفحة التالية
Icon