والثاني : أنها في مَحَلِّ نَصْب بِفِعْلٍ مَحْذُوف، أي : فكيف تكُونونُ أو تَصْنَعُون، ويَجْزِي فيها الوَجْهَان النَّصْب على التَّشْبِيه بالحَالِ ؛ كما هو مَذْهَب سَيبويْه، أو على التَّشْبِيه بالظَّرفيّة ؛ كما هو مذهب الأخْفَش، وهو العَامِل في " إذَا " أيْضَاً.
والثالث : حكاه ابن عَطيّة عن مَكِّي أنها معمولة لـ ﴿جِئْنَا﴾، وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ.
قوله ﴿مِن كُلِّ﴾ فيه وجْهَان : أحدهما : أنه مُتعلِّق بـ ﴿جِئْنَا﴾.
والثاني :[أنه متعلِّقٌ] بمحذوفٍ على أنَّه حَالٌ من ﴿شَهِيداً﴾، وذلك على رَأي من يُجَوِّزُ تقديم حالِ المجرُور بالحَرْفِ عليْهِ، كما تقدَّم، والمشهود مَحْذُوف، أي : شهيد على أمَّتِه.
فصل : معنى ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا﴾ من عَادَى العرب أنَّهم يقُولُون في الشَّيء الذي يتوقَّعُونَهُ : كيف بك إذا كان كَذَا وكَذَا، ومعنى الكلام : كَيْفَ يرون [يَوْمَ] القيامة : إذا اسْتَشْهَد الله على كُلِّ أمَّة برسُولِهَا يشهد عليهم بما عَمِلُوا، ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء ﴾ أي : شاهداً على جميع الأمَم.
روى أبو مَسْعُود ؛ " قال : قال النبيُّ ﷺ :" اقْرَأ عَلَيَّ ".
فقلت : يا رسُول الله، اَقْرَأ عَلَيْكَ، وعَلَيْكَ أنْزِلَ ؟ قال :" نَعَم، أحِبُّ أن أسْمَعَهُ من غَيْرِي "، فقرأت سُورة النِّسَاء حتى أتيْتُ إلى هذه الآيةِ، قال : حَسْبُك الآن، فالتَفَتُّ إلَيْه فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفان ".
قوله ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ في هذه الجُمْلَة ثلاثة أوجه : أظهرها : أنها في مَحَلِّ جرِّ عطفاً على ﴿وَجِئْنَا﴾ الأولى، أي : فكيف تصنعون في وَقْتِ المجيئين.
والثاني : أنها في مَحَلِّ نصب على الحَالِ و " قَدْ " مُرَادةٌ معها، والعَامِلُ فيها ﴿وَجِئْنَا﴾ [الأولى، أي : جئنا] من كُلِّ أمَّة بشهيدٍ وقد جِئْنَا ؛ وفيه نَظَر.
٣٨٦
الثالث : أنها مُسْتأنَفَة فلا مَحَل لها قال أُو البَقَاء ويجوز أن تكون مُسْتأنَفَة، ويكون المَاضِي بمعنى المُسْتَقْبَل انتهى.
وإنما احْتَاج [إلى ذلك] ؛ لأن المَجِيءَ بعد لَمْ يَقَع فادّعى ذلك، والله أعْلَم.
قوله :﴿عَلَى هؤلاء ﴾ متعلِّق بـ ﴿شَهِيداً﴾ و " عَلَى " على بابها، وقيل : بمعْنَى اللام، وفيه بُعْدٌ [وأجيز أن يكُونَ " عَلَى " متعلِّقَة بمحذُوفٍ على أنَّها حالٌ من ﴿شَهِيداً﴾ وفيه بُعْدٌ]، و ﴿شَهِيداً﴾ حالٌ من الكَافِ في " بِكَ ".
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٥
قوله :﴿يَوْمَئِذٍ﴾ فيه ثلاثة أوجُه : أحدها : أنه مَعْمُولٌ لـ ﴿يَوَدُّ﴾ أي : يَوَدُّ الذين كَفَروا يَوْمَ إذ جِئْنَا.
والثاني : أنه مَعْمُول لـ ﴿شَهِيداً﴾، قاله أبو البَقَاء ؛ قال وعلى هذا يكُون " يود " صفة لـ " يوم "، والعائد مَحْذُوفٌ، تقديره : فيه، وقد ذكر ذلك في قوله :﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي﴾ [البقرة : ٤٨]، وفيما قاله نظر.
والثَّالث : أن " يوم " مَبْنِيٌّ، لإضافته إلى " إذْ " قاله الحُوفيّ، قال : لأنَّ الظرف إذا ضيفَ إلى غير مُتَمكِّنٍ، جَازَ بناؤهُ معه، و " إذْ " هنا اسْمٌ ؛ لأن الظروف إذا أُضِيفَ إليها، خَرَجَتْ إلى مَعْنَى الاسميَّة، من أجل تَخْصِيص المُضَافِ إليْها، كما تخَصّص الأسْمَاء مع استحقَاقِها الجرّ، والجرُّ ليس من علامَاتِ الظُّروف، والتَّنْويِن في " إذْ " تنوين عوض على الصَّحيح، فقيل : عِوضٌ من الجُمْلَة الأولى، في قوله :﴿جِئْنَا مِن كُلِّ﴾ أي : يومئذٍ جِئْنَا من كُلِّ أمَّة بشهيدٍ، وجئنا بِكَ على هؤلاء شهيداً، و " الرسول " على هذا اسْم جِنْسٍ، وقيل : عِوَضٌ عن الجُمْلَة الأخيرةَ وهي ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾، ويكون المُراد بـ " الرسول " : محمد ﷺ، وكأن النَّظْم وعَصَوْك، ولكن أبرز ظاهراً بضفة الرِّسَالة تَنْوِيهاً بقدره وشرفِه.
وقوله :﴿وَعَصَوُاْ﴾ فيه ثلاثة أوْجُه : أحدها : أنها جُمْلَة معطوفة على ﴿كَفَرُواْ﴾ فتكون صِلَةً، فيكونون جَامِعِين بين كُفْرٍ ومَعْصِيَة ؛ لأن العَطْفَ يقتضي المُغَايَرَة، وإذا كان ذَلِكَ، فَيُجْمل عصيان الرَّسُول على
٣٨٧
المعَاصِي المغايرة للكُفْر، وإذا ثبت ذلك، فالآيَةُ دالَّة على أنَّ الكُفَّار مخاطبُون بفُرُوع الإسلام.
وقيل : هي صِلَةٌ لموصول أخَر، فيكون طَائِفَتَيْن، وقيل : إنها في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من ﴿كَفَرُواْ﴾، و " قد " مُرَادَة، أي : وقد عَصَوا.
قوله :﴿لَوْ تُسَوَّى ﴾ إن قيل إن " لو " على بابها كما هو قَوْل الجُمْهُور، فَمَفْعُول ﴿يَوَدُّ﴾ محذوفٌ، أي : يودُّ الَّذِين كَفَرُوا تَسْوية الأرْض بهم، ويدل عليه ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ﴾، وجوابها حينئذٍ مَحْذُوف، أي : لسُرُّوا بذلك.
وإن قيل : إنها مصدريَّة، كانت وهي وما بَعْدَها في محلّ مَفْعُول ﴿يَوَدُّ﴾، ولا جواب
٣٨٩