جُنُباً إلا مُجْتَازين ؛ لكونه لا مَمَرَّ سواه، وهو قول عبد الله بن مَسْعُود، وسعيد بن المسيَّب، والحسن، وعِكْرِمَة، والنَّخعِي، والزُّهري، وذلك أن قَوْماً من النْصار، كانت أبوابُهم في المَسْجِد، فتُصيبهم الجَنَابة، ولا مَاء عندهم، ولا مَمَرَّ لهم إلا في المَسْجِد، فَرُخِّصَ لهم في العُبُور، قالوا : والمُراد من الصَّلاةِ ؛ لقوله - تعالى - :﴿وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ﴾ [الحج : ٤٠] والمعنى : لا تَقْرَبُوا المسجد وأنتم جُنُب، إلا مُجْتازين فيه للخُرُوجِ منه، مثل أن يَنَام في المَسْجِد، فَيَجْنُبُ أو تُصِيبُه جَنَابة والماءُ في المَسْجِد، والعُبُور الجَوَاز ؛ ومنه :" نَاقَةٌ عُبْرُ الهَوَاجِر " قال :[الكامل] ١٨٠٤ - عَيْرَانَةُ سُبُحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ
عُبْرُ الهَوَاجِرِ كالهِزَفِّ الخَاضِبِ
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
وقوله :" حتى تغتسلوا " ؛ كقوله :" حتى تعلموا " فهي مُتعلَّقة بفعل النَّهِي.
فصل : حكم عبور المسجد للجنب اختلفوا في عُبُور المَسْجِد للجُنُب، فأبَاح الحَسَنُ ومَالِكٌ والشَّافِعِيُّ المُرور فيه على الأطلاقِ، وهو قَوْل أصْحَاب الرأي، وقال بَعْضُهم : يَتَيَمَّمُ للمرور فيه، وأما المُكْثُ فلا يجوز عند أكْثرِ العُلَمَاء ؛ لقول النَّبِي ﷺ " وَجَّهُوا [هذه البُيُوت عن المَسْجِد] فَإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ " وجوّز أحْمَدُ المُكْثَ فيه، وضعَّف الحديث ؛ لأن رَاويه مَجْهُول.
قوله :" وإن كنتم مرضى " جمع مَريض، وأراد به مَرَضاً يَضُرُّه أساس الماء كالجُدَرِي والقُرُوح العَظيمَة، أو كان على مَوْضِع طَهَارته جِرَاح يخاف من اسْتِعْمَال الماء التَّلف، أو زيادة المَرَضِ، فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّمِ وإن كان مَوْجُوداً، وإن كان بَعْض أعضاء طهارته صحيحاً والبَعْض جَريحاً، غسل الصَّحيحَ، وتيَمَّم عن الجَرِيح ؛ لما رَوَى جَابر ؛ قال : خَرَجْنَا في سَفَرٍ، فأصَابَ رَجُلاً منا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ في رَأسِهِ فاحْتَلَم، فسَال أصْحَابَهُ هلْ تجدُون رُخْصَة في التَّيَمُّم ؟ قَالُوا : ما نَجِدُ لك رُخْصَة في التَّيَمُّم، وأنت قَتَلَهُم اللهُ إلا سَألُوا إذ لَمْ يَعْلَمُوا، فإنما شِفَاء العيِّ السُّؤالُ، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعْصِر أو يَعْصِب - شك الراوي - على جُرْحِهِ
٣٩٨
خِرْقَة، ثم يَمْسَح عليها ويَغْسِل سَائِر جَسَده.
ولم يجوِّز أصْحَاب الرَّأي الجمع بين التَّيَممُّم والغُسْل، وقالوا : إن كَانَ أكْثَر أعْضَائه وصَحِيحاً، غسل الصَّحيحَ وكَفَاهُ، وإن كان الأكْثَر جَريحاً، اقْتَصر على التَّيَمُّم، والحديث حُجَّةٌ عليهم.
قوله :" أو على سفر " في محلِّ نصبٍ عطفاً على خَبَر كان، وهو المَرْضَى ؛ وكذلك قَولُه :" أو جاء أحد منكم " " أو لامستم النساء "، وفيه دليلٌ على مجيء [خبر] كان فِعْلاً مَاضياً من غَيْر " قَدْ "، وادِّعاء حَذْفها تكلُّفٌ لا حَاجَة إلَيْه ؛ كذا اسْتَدَلَّ به أبو حيان، ولا دليل فيه ؛ لاحْتِمَال أن يَكُون " أو جاء " عَطْفاً على " كنتم " تَقْديره : وإن جَاءَ أحَدٌ، وإليه ذهَب أبُو البَقِاء، وهو أظْهَر من الأوَّل والله أعلم.
فصل أراد مُطْلق السَّفَر طويلاً كان أو قَصيراً، إذا عَدِمَ المَاءَ فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّم، ولا إعادة عَلَيه ؛ لما روي عن أبِي ذرٍّ ؛ قال : قال النَّبي ﷺ :" إنَّ الصَّعيد الطَّيِّبَ وضُوء المسْلِمِ، وإن لم يَجد المَاءَ عَشْرَ سِنِين، فإذا وَجَد المَاءَ، فَلْيَمُسَّهُ بَشَرتهُ فإن لم يَكُن مَرِيضاً ولا في سَفَرِ، ولكنه عَدِم المَاءَ في مَوْضِع لا يُعْدَم فيه المَاءُ غَالِباً : كقرية انقطع مَاؤُهَا فقال بَعْضُهم يصلِّي بالتَّيَمُّم، ويُعيدُ إذا قدر على المَاءِ "، وقال آخَرُون : لا إعَادة [عَلَيْه] وهو قول الأوْزَاعِي ومَالِكٍ، وقال أبو حَنيفَة : يؤخِّر الصَّلاة حتى يجد المَاءَ.
وقوله :" أو جاء أحد منكم من الغائط " أراد به : إذا أحْدَث، وقوله :" أو جاء أحد " يدل على الانتقال من مَكَان الغائِط والانتقَال عنه.
و " منكم " في مَحَلِّ رفع ؛ لأنه صِفَة لأحد فَيَتعلَّق بمحذوف، و " من الغائط " متعلِّق بـ " جَاءَ " فهو مَفْعُوله، وقرأ الجُمْهُور :" الغائط " بزنة " فَاعِل " وهو المكان المُطَمْئِن من الأرْضِ [وجَمْعُه الغيطان ثم عَبَّر عَن الحَدَثِ كِناية ؛ للاستحْيَاء من ذِكْره، وفرَّقت] العرب بين الفِعْلَيْن منه، فقالت : غَاطَ في الأرض، أي : ذَهَب وأبْعَد إلى مَكَانِ لا يَراهُ فيه إلا من وَقَف عليه، وتَغَوَّط : إذا أحْدَث.
٣٩٩


الصفحة التالية
Icon