فصل فيما يجب على القاضي نحو الخصمين يجب على القاضي أن يسوِّي بَيْنَ الخصمين في الدُّخُول عيه، والجُلُوس بَيْنَ يَدَيْهِ، والإقبال عَلَيْهِمَا، والاستماعِ منهما، والحكم بَيْنهُمَا، وينبغي إلا يلقِّنَ أحدهُمَا حُجَّةً، ولا شاهداً شهادته، ولا يلقّن المدّعي الدَّعْوَى، والاستخلافَ، ولا يلقنَ المُدَّعى عليه الإقْرَارَ، ولا الإنْكارَ، ولا يَضِيفَ أحَد الخَصْمَيْنِ دُونَ الأخر، ولا يُجِيبَ هو إضَافَةَ أحدهِمَا، ولا إلى إضافتهما مَا دَاما مُتَخَاصِمَيْنِ، وعليه التَّسْوِيَة بينهما في الأفْعَالِ دون القلب ؛ لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يتحرَّز من ميل قلبه.
قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ قد تقدَّمَ الكلامُ على ما المتصلة بـ " نعم "، و " بئس " إلا أنَّ ابْن عَطِيَّة نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُدُ مِنْ وَهْمٍ!.
قال : و " ما " المُرْدَفَةُ على نعم، وبئس إنَّمَا هي المُهيئَةُ لاتّصَالِ الفِعْلِ كما هي في رُبَّمَا، ومما في قوله : وكان رَسُولُ الله مما يحرك شَفَتَيْه وكقول الشَّاعر :[الطويل] ١٨١٣ - وإنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً
عَلَى رَأسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٣٣
وفي هذا بمنزِلَةِ رُبَّمَا، ومنزلتها مخالفة في المَعْنَى ؛ لأنَّ رُبَّمَا للتَّعْلِيلِ، ومما للتَّكْثِيرِ ومع إنما هي موطّئة، فهي بمعنى الَّذي، وما وطَّأتْ إلاّ وهي اسمٌ.
ولكن المقصد إنما هو لا يليها من المَعْنَى الذي في الفِعْل.
قال أبُو حَيَّان وهذا متهافتٌ ؛ لأنه من حَيْثُ جعلها مُوَطِّئَةً مُهَيَّئَةً، لا تكونُ أسماء، ومن حَيْثُ جعلها بمعنى الَّذِي يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ اسْماً، فتدافعا.
فصل : في معنى قوله " نعما يعظكم " المعنى : نِعْمَ شَيئاً يعظكم به، أو نِعْمَ الشَّيء الذي يعظكُم بِه.
والمخصوص بالمدح مَحْذُوفٌ، أي : نِعْمَ ما يَعِظُكُم بِهِ ذلك، وهو المأمور به : من أدَاءِ الأمَانَاتِ والحُكْمِ بالعَدْلِ، أي : بالقسط، ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾، أي : إذا حكمت بالعدل، فهو يَسْمَعُ ذلِكَ، لأنَّهُ سميعٌ لِكُلّ المَسْمُوعاتِ، وإنْ أدَّيْتَ الأمَانَةَ، فهو
٤٤٠
بَصِيرٌ بكُلِّ المبصرات يبصر ذلك، وهذا أعْظَمُ أسْبَابِ الوَعْدِ للمطيع، وأعظم أسْبَابِ الوعيدِ للعاصي.
وإليه الإشارة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - " اعْبُد اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ ".
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٣٣
اعلم أنَّهُ تعالى لما أمر الولاة بالعَدْلِ، أمر الرعية بطاعة الوُلاَةِ.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ وجَابِرٌ : أولو الأمْرِ :[هُمُ] الفُقَهَاءُ، والعلماءُ الَّذِينَ يعلِّمُونَ النَّاسَ دينهم.
وهو قَوْلُ الحَسَنِ، والضَّحاكِ ومُجاهِدٍ.
لقوله تعالى " ولو ردوه إلى الرسول [وإلى] أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ".
وقال أبُو هُرَيرَة : هم الأمَرَاءُ والوُلاة، وقال عليُّ بْنُ أبي طالبٍ : حقٌّ على الإمام أن يَحْكُمَ بما أنْزَلَ اللهُ، ويُؤَدِّي الأمَانَة، فإذا فَعَلَ ذلك ؛ حَقَّ علي الرَّعِيَّةِ أنْ يَسْمَعُوا، وَيُطِيعُوا.
وروى أبُو هُرَيْرَة قال : قال رَسُولُ اللهِ ﷺ " مَنْ أطَاعَنِي ؛ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ، ومَنْ يَعْصِنِي، فَقَدْ عَصَى الله، ومَنْ يُطِعِ الأمِيرَ ؛ فَقَدْ أطَاعَنِي ومن يعصي الأميرَ، فَقَدْ عَصَانِي " وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ " السَّمْعُ والطَّاعَةُ على المرءِ المُسْلِمِ فيما أحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ ".
٤٤١
وروى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قال : بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ على السَّمْعِ والطَّاعَةِ في اليُسْر، والعُسْر، والمَنْشَطِ، والمَكْرَه، وألاَّ نُنَازعَ الأمْرَ أهْلَهُ، وأنْ نَقُومَ، أوْ نَقُولَ بالحَقّ، حَيْثُ مَا كُنَّا، لا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.
وعن أنَسٍ : أنَّ النَّبي ﷺ قال لأبي ذرّ :" اسْمَعْ، وأطِعْ وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيّ كأنَّ رَأسَهُ زَبيبة ".
وروى أبُو أمَامَةَ قال :" سَمِعْتُ رَسُول اللهِ ﷺ يَخْطِبُ في حجة الوَدَاعِ فقالَ :" اتَّقُوا اللهَ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وأدُّوا زَكَاةَ أمْوالِكُمْ، وأطِيعوا إذا أمَرَكُم ؛ تَدْخُلُوا جَنَّةَ ربِّكُم ".
وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ المُرادُ السَّرَايَا قال : نزلت هذه الآية في عبيد الله بن أبي حُذَافَةَ بْنِ قَيْس بْن عدِيّ السّهميّ إذ بعثه النّبي ﷺ [في سرية، وعن ابن عباس أنَّها نزلت في خَالدِ بْنِ الوَلِيدِ بَعَثَهُ] النبي ﷺ على سَرِيَّةٍ، وفيها عَمَّارُ بْنُ
٤٤٢