الآيةُ تَدُلُّ على أنَّه حُجَّة، لأنَّه قَوْلً جميعِ أهْل الحَلِّ والعَقْدِ من الأمَّةِ، فيدخُل في الآيةِ سَواءٌ وجد قَبْلَهُ خِلافٌ، أم لا.
الثالث : اختلفُوا في انقِراض أهْل العَصْرِ، هل هو شَرْطٌ أم لا، وهذه الآية تَدُلُّ على انَّه لَيْسَ بِشَرْط ؛ لأنَّها تَدُلُّ على وُجُوبِ طَاعَةِ المُجْمِعين، سَوَاء انْقِرض [أهْل] العَصْرِ أم لم يَنْقَرِضِ.
الرابع : دَلَّت الآيَةُ على أن العِبْرَةِ بإجْمَاعِ المُؤمِنين ؛ لقوله - [تعالى] - " يا أيّها [الذين آمنوا] ثم قال :" وأولي الأمر منكم ".
قوله : إن كُنتُم " شرط، جوابُه مَحْذُوفٌ عند جُمْهُور البَصْريَّين، أي : فَرُدُّوه إلى اللهِ، وهو مُتقدِّم عند غيرهم.
وهذا الوعِيدُ يحتمل أن يكُون مَخْصُوصاً بقوله :﴿فَرُدُّوهُ﴾، ويُحْتَمل أن يكُون عَائِداً إلى قوله :" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ".
فصل ظاهر قوله :﴿إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ يَقْتَضِي أنَّ من لم يُطِع الله والرَّسُول لا يَكُونُ مُؤمِناً، فيخرج المُذْنِب عن الإيمانِ، لكِنَّه مَحْمُولٌ على التَّهْديدَ، وقوله :﴿ذالِكَ خَيْرٌ﴾ أي : الَّذي أصْدُقُكم في هذه الآيَاتِ من الأحْكَام، والطَّاعَة، والردِّ إلى اللهِ والرَّسُول خيرٌ لكم، " وأحسن تأويلاً "، أي : مآلاً ؛ لأن التَّأوِيل عِبَارةٌ عن الشَّيْء ومرْجِعِه وعاقِبتهِ و ﴿تَأْوِيلاً﴾ نَصْب على التَّمْيِيز.
فصل قال أبو العبَّاس المُقْرِي : ورَدَ التَّأويل في القُرْآنِ على أرْبَعَةِ أوْجُه : الأوَّل : بمعنى العَاقِبَة كَهَذِه الآيَة.
الثاني : بمعنى المُنْتَهى ؛ قال - تعالى - :﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [آل عمران : ٧] أي : ما يَعْلَمُ مُنْتَهَى تأويلِهِ إلا الله.
الثالث : بمعنى تَعبير الرُّؤيَا ؛ قال - تعالى - :﴿أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ [فَأَرْسِلُونِ]﴾ [يوسف : ٤٥] أي : بعبَارتهِ ؛ ومثله :﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ [يوسف : ٦] أي : تَعْبير الرُّؤيَا.
٤٥١
الرابع : بمعنى التَّحقِيق ؛ قال - تعالى - :﴿هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف : ١٠٠] أي : تحقيق رُؤيَايَ ؛ ومثل الوجه الأوَّل :﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ [الأعراف : ٥٣] أي : عاقبته، [ومثله :﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يونس : ٣٩] أي : عَاقبته.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤١
لما أوْجَبَ الطَّاعَة على جميع المُكَلَّفين في الآيةِ الأولَى، ذكر في هذه الآيةِ أن المُنَافقين والذين في قُلُوبهم مَرَضٌ لا يُطيعُون الرَّسولَ، ولا يَرْضُونَ بحُكْمِهِ، وإنما يُريدُون حُكْمَ غيره، و " الزَّعم " بفتح الزَّاي وضمها وكسرها مصدر زَعَم، وإنما يُريدُون به اعتِقادٌ ظَنِّيٌّ ؛ قال :[الطويل] ١٨١٤ - فَإنْ تَزْعُمِيني كُنْتُ أجْهَلُ فِيكُمُ
فَإنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكَ بِالجَهْلِ
قال ابنُ دُرَيْد : أكثرُ ما يَقَعُ على البَاطِلِ، وقال - عليه الصلاة والسلام - :" بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا ".
وقال الأعْشى :[المتقارب] ١٨١٥ - وَنُبِّئْتُ قِيْساً وَلَمْ أبْلُهُ
كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ
فقال المَمْدُوح : وما هُو إلا الزَّعْم، وحَرَمَهُ ولم يُعْطِهِ شَيْئاً، وذكر صَاحِبُ العين أنَّها تَقَع غَالِباً [على " انَّ " ] وقد تَقَعُ في الشِّعْر على الاسْمِ، وأنشد بيت أبي ذُؤيْب، وقول الآخر :[الخفيف] ١٨١٦ - زَعَمَتْنِي شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ
إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دبِيبَا
قيل : ولا يُسْتَعْمَل في الأكْثَرِ إلا في القَوْلِ الذي لا يَتَحَقَّقُ.
٤٥٢
قال الليث : أهْل العَرَبيَّةِ يَقُولُون : زَعم فُلانٌ ؛ إذَا شَكَّوا فيه فلم يَعْرِفُوا أكذبَ أمْ صَدَق ؛ وكذلك تَفْسِير قوله :﴿هَـذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ﴾ [الأنعام : ١٣٦] أي : بقولهم الكَذِب.
قال الأصْمَعِيّ : الزَّعُومُ من الغَنَم الذي لا يُعْرَفُ أبها شحم أم لا وقال ابن الأعْرابِيّ : الزَّعْم قد يُسْتَعْمل في الحَقِّ، وأنشد لأميَّة بن أبي الصَّلْت :[المتقارب] ١٨١٧ - وإنِّي أدينُ لَكُم أنَّهُ
سَيَجْزيكُمُ رَبُّكُمُ مَا زَعَمْ


الصفحة التالية
Icon