سورة المائدة
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ بالعقود أي : بالعهود، ويقال : وَفَّى بالعهد، وأوفى به.
قال الزَّجَّاج : هي أوكد العهود، ويقال : عاقدت فلاناً، وعقدت عليه، أي :
١٦١
ألزمته ذلك باستيثاق، وأصله من عقد الشيء بغيره، ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل.
فالعهد إلزام، والعقد التزام على سبيل الإحكام، ولما كان الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأحكامه، وكان من جملة أحكامه أنه يجب على الخَلْقِ إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه - أمر بالوفاء بالعقود، أي : أنكم التزمتم بإيمكانكم أنواع العقود والطاعة بتلك العقود.
فصل في الكلام على فصاحة الآية قال القرطبي : هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها، لكل بصير بالكلام ؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام : الأول : الأمر بالوفاء بالعقود.
الثاني : تحليل بهيمة الأنعام.
الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك.
الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يُصَادُ.
الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وحكى النقاش أن أصحاب الكندي، قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال : نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة، ثم خرج، فقال : والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة " المائدة "، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين [ولا] يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.
فصل في الخطاب في الآية واختلفوا في هذه العقود، فقال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب، يعني :﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود، التي عهدتها عليكم في شأن محمد - عليه الصلاة والسلام - وهو قوله :﴿وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران : ١٨٧].
وقال آخرون : هو عام.
وقال قتادة : أراد بها الحِلْفَ الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية.
١٦٢
وقال ابن عباس : هي عهود الإيمان والقرآن.
قال ابن عباس :" أوفوا بالعقود " أي : بما أحل وبما حرم، وبما فرض، وبما حَدَّ في جميع الأشياء كذلك، قاله مجاهد وغيره.
وقال ابن شهاب [الدين] : قرأت كتاب رسول الله ﷺ الذي كتبه لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى " نجران "، وفي صدره : هذا بيان للناس من الله ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ الآية، فكتب الآيات فيها، إلى قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، والمقصود أداء التكاليف فعلاً وتركاً.
وإنما [سميت التكاليف عقوداً لأنه - تعالى - ربطها بعبادته كما يربط الشيء بالشيء بالحبل] الموثق.
وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم.
فصل في فقه الآية قال الشافعي : إذا نذر صوم [يوم] العيد، أو نذر ذبح الولد لغى.
وقال أبو حنيفة رحمه الله : بل يصح، واحتج بقوله :" أوفوا بالعقود " وبقوله :﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف : ٢]، وبقوله :﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان : ٧] ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ [البقرة : ١٧٧] ولقوله عليه الصلاة والسلام :" أوفِ بنَذْرِكَ ".
وقال الشافعي : هذا نذر معصية، فيكون لغواً ؛ لقوله عليه السلام :" لا نذر في معصية الله ".
وقال أبو حنيفة : خيار المجلس غير ثابت ؛ لأن البيع والشراء قد انعقدا، فحرم الفسخ لقوله تعالى :﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾.
١٦٣