فصل في سبب نزولها قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ : نزلت هذه الآيةُ في عديّ بْنِ حَاتِم، وَزَيْدِ بْنِ المُهَلْهِلِ [الطائيين وهو] زَيْدُ الخيل الذي سمَّاه النبيُّ ﷺ زيد الخيْرِ، فقال :" يا رسول الله، إنّا قَوْمٌ نَصِيدُ بالكِلاَبِ، والبزاةِ، فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا منها ؟ ".
فنزلت هذه الآية.
وقيل : سببُ نزولِها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لما أمر بقتل الكلابِ، قالوا : يا رسول اللَّهِ، ماذا يحلُّ لنا من هذه الأمَّةِ التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت هذه الآية، فلما نزلت أذِنَ رسولُ الله ﷺ في اقتناءِ الكِلابِ التي يُنْتَفَعُ بها، وَنَهَى عن إمْسَاكِ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بها.
قوله تعالى :﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ يعني : الذَّبَائح على اسم الله عزَّ وجلَّ.
وقيل : كلُّ ما تستطيبه العرب وتستلذُّه من غير أن يراد بتحريمه نصٌّ من كتاب أو سنة، وكانت العرب في الجاهليةَ يحرمون أشياء [من الطيبات] كالبحيرَة والسَّائِبَةِ والوَصِيلَةِ، والحامِ، فهم كانوا يستطيبونها إلا أنَّهُم كانوا يحرِّمُونَ أكلها لِشُبُهَاتٍ ضعيفة، فذكر تعالى أن كلَّ ما يُسْتَطَابُ فهو حلال، وأكَّدَهُ بقوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف : ٣٢] وبقوله :﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ﴾ [الأعراف : ١٥٧]، والطَّيب في لغةِ العرب هو المستلذُّ والحلالُ المأذُونُ، يصير - أيضاً - طَيّباً تشبيهاً بما هو مستلذ ؛ لأنَّهُما اجتمعا في انتفاء الضَّرورة، ولا يمكن أن يكونَ المرادُ بالطيِّبَاتِ هنا المحللات وإلا لصار تقديرُ الآية : قل [أحِلَّ] لكم المحللات، وهذا ركيك، فوجب حمل الطيبات على المستلذِّ المشتهى.
واعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة ؛ فإنَّ أهل البادية يستطيبون أكلَ جميع الحيوانات، واعلمْ أنَّ قوله تعالى :﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ [البقرة : ٢٩] يقتضي التَّمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلا أنَّهُ ورد تخصيصه بقوله :﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ﴾ [الأعراف : ١٥٧]، ونص في هذه الآية على إبَاحَةِ المستلذات والطيبات، وهذا أصل كبير في معرفة ما يحلُّ وما يحرمُ من الاطعمة.
قوله سبحانه :﴿لطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ في " ما " هذه ثلاثة أوجه : أحدها : أنها موصولة بمعنى " الذي "، والعائد محذوف، أي [ما] علمتموه،
٢٠٤
ومحلها الرفع عطفاً على مرفوع ما لم يُسَمَّ فاعله أي : وأحل لكم صَيْدُ أو أخذ ما علمتم، فلا بد من حذف هذا المضاف.
والثاني : أنَّهَا شرطيّة فمحلها رفع بالابتداء، والجوابُ قوله :" فَكُلُوا ".
قال أبو حيان : وهذا أظهرُ ؛ لأنَّه لا إضمار فيه.
والثالث : أنَّهَا موصولة - أيضاً - ومحلُّها الرفع بالابتداء، والخبر قوله :" فَكُلُوا " وإنَّمَا دخلت الفاء تَشَبُّهاً للموصول باسْمِ الشَّرْطِ، وقوله : من الجَوَارِحِ في محَلِّ نصب، وفي صاحبها وجهان : أحدهما : أنَّهُ الموصول وهو " ما ".
والثاني : أنَّهُ الهاء العائدة على الموصول، وهو في المعنى كالأوَّل.
والجوارح : جمع جارحة، والهاء للمبالغة سميت بذلك ؛ لأنَّهَا تجرح الصيد غالباً، أو لأنَّهَا تكسب والجرح الكَسْب.
ومنه :﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام : ٦٠] والجارحة صفة جارية مجرى الأسماء ؛ لأنَّهَا لم تذكر موصوفها غالباً.
وقرأ عبد الله بن عبَّاس، وابن الحنفية " عُلِّمْتُمْ " مبنياً للمفعول، وتخريجها : أن يكون ثَمَّ مضافٌ محذوف، أي : وما علّمكم الله من أمر الجوارح [ " مكلبين " : حال من فاعل " علمتم " ومعنى مكلبين : مؤدبين ومضرين ومعوِّدين، أي : حال تكليبكم] هذه الجوارح، أي : إغرائكم إياها على الصَّيد.
قال أبو حيَّان : وفائدة هذه الحال، وإن كانت مؤكدة لقوله :" عَلَّمتم " - فكان يستغنى عنها - أن يكون المعلم ماهراً بالتعليم، حاذقاً فيه موصوفاً به اهـ.
وفي جعله هذه الحال مؤكدةً نظر، بل هي مؤسسة.
واشتُقَّت هذه الحالُ من لفظ " الْكَلْب " هذا الحيوان المعروف، وإن كانَتِ الجوارحُ يندرج فيها غيره حتى سِبَاعُ الطيور تغليباً له ؛ لأنَّ الصَّيْدَ أكثر ما يكون به عند العَرَبِ.
أو اشتقت من " الكَلَب "، وهو الضَّراوة، ويقال : هو كَلِبٌ بكذا أي : حريص، وبه كَلَبٌ أي حِرْصٌ، وكأنه - أيضاً - مشتقّ من الكَلْبِ هذا الحيوان لحرصه أو اشتقت من الكَلْبِ، والكَلْبُ : يطلق على السَّبُع - أيضاً -.
٢٠٥