وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وقال الآخر :[الطويل] ١٩٤٣ - بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى
ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا
فجر بتقدير الباء، وليس بموضع ضرورة.
قوله : وإبقاء [الجرّ] ليس على إطلاقه، وإنَّما يطردُ منه مواضع نصَّ عليها أهل اللِّسَانِ ليس هذا منها.
وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النُّحَاةِ يسمَّى العطف على التوهُّم يعني كأنَّهُ توهم وجود الباء زائدة في خبر " لَيْسَ "، لأنها يكثر زيادتها، ونظَّروا ذلك بقوله تعالى :﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون : ١٠] بجزْمِ " أكن " عَطْفاً على " فأصَّدقَ " على توهُّم سقوط الفاء من " فأصَدَّق " نص عليه سيبويه وغيره، فظهر فسادُ هذا التخريج.
وأما قراءة الرَّفْع فعلى الابتداء، والخبرُ محذوفٌ، أي : وأرْجُلكم مغسولة، أو ممسوحة على ما تقدَّم في حكمها [والكلام] في قوله " إلى الكَعْبَيْنِ " كالكلام في " إلى المرفقين ".
" والكَعْبَان " فيهما قولان [مشهوران].
أشهرهما : أنَّهُما العظمان الناتئان عند مفصل السَّاق والقَدمِ في كل رجل كعبان.
٢٢٨
والثاني : أنَّهُ العظم النّاتئ في وجه القَدَمِ، حيث يجتمع شراك النَّعْلِ، ومراد الآية هو الأوَّل.
والكَعْبَةُ، كُلُّ بيت مُرَبَّع، وسيأتي [بيانه] في موضعه إن شاء الله - تعالى -.
فصل قد تقدَّم كلام النُّحاة في الآية.
وقال المُفَسِّرون : من قرأ بالنصْب على تقدير :" فاغْسِلُوا وجوهكم، وأيديكم، واغسلوا أرجلكم " ومن قرأ بالجرِّ فذهب بعضهم إلى أنَّه يمسح على الرجلين.
روي عن ابن عباس أنَّه قال :" الوُضُوء غَسْلتَانِ وَمَسْحَتَانِ "، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادةَ.
قال الشَّعبيُّ : نزل جبريل بالمسحِ، وقال : ألا ترى التيمُّمَ ما كان غسلاً، ويلقى ما كان مسحاً.
وقال مُحَمَّدُ بْنُ جرير : يتخيرُ المتوضئ بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين، وذهب جماعةُ من أهل العلم من الصحابَةِ والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم كقوله :﴿عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ [هود : ٢٦]، فالأليم صفة العذاب، ولكنَّه جرّ للمجاورة كقولهم :" جُحْرُ ضَبٍّ خَرِب ".
ويدلُّ على وجوب غسل الرِّجلين ما روى عبد الله بن عمرو، قال :" تخلفَ عنا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في سفر سافرناهُ، فأدركناه وقد راهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضّأ، فجعلنا نمسحُ على أرْجُلِنَا، فَنَادَانَا بأعلى صوته :" وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّار ".
والأحاديثُ الواردة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كثيرة، وكلهم وصفوا غسل الرجلين.
٢٢٩
وقال بعضهم : أراد بقوله " وأرْجلكُم " : المسح على الخفين، كما رُوي أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " كَانَ إذا رَكَع وضَعَ يَدَهُ على رُكْبَتَيْهِ "، وليس المرادُ منه أنَّهُ لم يكن بينهما حائل، ويقالُ : قبَّلَ فلان رأس الأمير ويده، وإنْ كانت العمامة على رأسِهِ ويده في كمه فالواجب في غسل أعضاء الوضوء هذه الأربعة.
فصل : حكم النيّة في الوضوء اختلفوا في وجوب النية فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العباداتِ، ولقوله عليه السلام :" إنَّما الأعْمَالُ بالنيَّات " وذهب النووي وأصحاب الرّأي إلى عدم وجوبها.
فصل [حكم الترتيب] واختلَفُوا في وجوب الترتيب وهو أن يغسل أعضاءه على التَّرْتيب المذكور في الآية فذهب مالكٌ والشافعيُّ، وأحمد وإسحاق إلى وجوبه، ويروى ذلك عن أبي هريرة، واحتجُّوا بقول الله تعالى :﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ فاقتضى وجوب الابتداء بغسل الوجه ؛ لأنَّ الفاء للتّعقيب، وإذا أوجب الترتيب في هذا العضو ؛ وجب في غيره، إذ لا قائل بالفرق.
[قالوا : فاء التعقيب إنما دخلت] في جملة هذه الأعمال، فجرى [الكلام] مجرى قوله : إذا قُمتمْ إلى الصلاةِ، فأتوا بمجموع هذه الأفعال.
قلنا : فاء التّعقيب إنّما دخلت على الوجه لالتصاقها بذكر الوجه، وبواسطة دخولها على الوجْهِ، دخلت على سائر الأفعالِ، فكان دخولها على الوجه أصل، ودخولها على المجموع تبع لدخولها على غسل الوجه، فنحنُ اعتبرنا دلالة الفاء في الأصْلِ، واعتبرتموها في التبع، فكان قولنا أولى.
وأيضاً فقوله - عليه الصلاة والسلام - :" ابْدَءوا بما بَدَأ اللَّهُ بِه " يقتضي العموم، وأيضاً فإهمال الترتيب في الكلام مستقبح فيجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، وكونه تعالى أدرجَ ممسوحاً بين مغسولَيْن، وقطع النّظير عن النظير، يدلُّ على أنَّ التَّرتيب مراد.
وأيضاً فإن وجوبَ الوضُوءِ غير معقول المعنى ؛ لأنَّ الحدث يخرج من موضع
٢٣٠