التَّمَرُّد، ولَعَلَّهُ إنَّما قَالَ ذَلِكَ تَقْلِيلاً لمن وَافَقَهُ، أو يكُون المُرَادُ بالأخِ مَنْ يُؤاخِيهِ في الدِّين، وعلى هذا يَدْخل الرَّجُلان.
والمُرادُ بقوله :﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ أي : افْصِلْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُم، بأنْ تَحْكُم لَنَا بما تَسْتَحِقُّ وتحْكُم عَلَيْهِم بما يَسْتَحِقُّون، وهُوَ في مَعْنَى الدُّعَاء عَلَيْهِم، أو يكون المَعْنَى : خَلِّصْنَا من صُحْبَتِهِم، وهو كقوله :﴿نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص : ٢١].
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٢٦٧
قوله :﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي الأرْضَ المقدسة مُحَرَّمة عَلَيْهم أبَداً، لم يرد تَحْريم تَعَبُّد، وقيل تَحْرِيم مَنْع.
[في] قوله :" أرْبَعين سَنَةً " وجهان : أظهرهما أنَّه منْصُوب لـ " مُحَّرَمة "، فإنَّه رُوِي في القِصَّة أنهم بعد الأرْبَعين دخلوها، فيكون قد قَيّد تَحْريمها عَلَيْهم بهذه المُدَّة، وأخْبَر أنَّهم " يَتيهُون "، ولم يُبَيِّنْ كَميَّة التِّيه، وعلى هذا فَفِي " يَتيهُون " احتمالان : أحدهما : أنه مستَأنَفٌ.
الثاني : أنَّه حالٌ من الضَّمِير في " عَلَيْهِم ".
الوجه الثَّاني : أن " أرْبَعين " مَنْصُوب بـ " يتيهُون "، فيكون قَيّد التِّيه [بـ " الأرْبَعين " ].
[وأمَّا] التَّحْريم فمطلق، فيحتمل أن يكُون مُسْتَمِراً، أو يكون مُنقْطِعاً وأنَّهَا أحلت لهم.
وقد قيل بِكُلٍّ من الاحتمالين، رُوِي أنَّه لم يدخُلْها أحَدٌ ممَّن كان في التِّيهِ، ولم يَدْخُلْها إلا أبْناؤُهُمَ [وأمَّا الآبَاءُ فماتُوا، وما أدْرِي ما الَّذي حَمَل أبَا مُحَمَّد بن عَطِيَّة على تَجويزه أن يكُون العَامِلُ في " أربعين " مُضْمَراً يفسره] " يتيهُون " المتأخر، ولا ما اضْطَرَّه إلى ذَلِك من مَانِعِ صِنَاعِي أو مَعْنَوِي، وجَوَاز الوَقْف والابْتِدَاء بقوله :" عَلَيْهِمْ "، و " يَتِيهُون " [مفهوما ممَّا] تقدم من الإعراب.
والتِّيه : الحَيْرة، ومنه : أرْضٌ تَيْهَاء [لِحَيرةٍ سَالكها] قال :[الطويل]
٢٧٧
١٩٥٠ - بتَيْهاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأنَّهَا
قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُها
ويقال :" تَاهَ يتيه وهو أتْيَهُ منه، وتَاهَ يَتُوه وهو أتْوَهُ مِنْه " [فقول من قال : يتيه، وتوهْتُهُ] من التَّدَاخل، ومثله :" طَاحَ " في كونه سُمِع في عَيْنيه الوجهان، وأن فيه التَّدَاخُلَ - أيضاً - فإنَّ من قال :" يَطِيحُ " قال :" طَوَّحْتُه "، وهو " أطْوَحُ منه ".
واختَلفُوا في التِّيه، قال [الرَّبيع :] مقدار ستة فَرَاسِخ، وقيل : تِسْعة فَرَاسِخ في ثلاثين فَرْسخاً، وقيل : سِتَّة فَرَاسِخ في اثْنَيْ عشر فرسخاً.
وقيل : كانوا ستمائة ألْفِ فارس.
فإن قيل : كيف يعقل بَقَاءُ هذا الجَمْع العظيمِ في هذا القَدْر الصَّغِير من المفَازَة أرْبَعِين سنة بحيث لا يَتَّفِقُ لأحدٍ منهم أن يَجِد طَرِيقاً إلى الخُرُوج عنها ؟ ولو أنهم وضعُوا أعينَهُم على حركة الشَّمس أو الكواكب لَخَرجوا منها، ولو كانُوا في البَحْر العَظِيم فكيف في المفازة الصغيرة ؟.
فالجواب فيه وَجْهَان : الأوَّل : أن انخراق العَادَات في زمن الأنْبِياء غير مُستبعد، إذ لو فَتَحْنَا باب الاسْتِبْعَاد لزم الطَّعن في جميع المُعْجِزات، وهو باطِلٌ.
الثاني : إذا جعلْنَا ذلك التَّحْريم تحريم تعبد، زال السَّؤال ؛ لأن الله تعالى حرَّم عليهم الرُّجوع إلى أوْطَانِهِم، وأمرهم بالمكْثِ في تلك المفَازةِ أرْبعين سنة مع المشقة والمحنة جَزَاءً لهم على سُوء صنِيعِهم.
قال القُرْطُبِي :[قال] أبو علي : قد يكونُ ذلك بأن يحول الله الأرْضَ التي هم عليها إذا نَامُوا فيردَّهم إلى المكان الذي ابْتَدؤوا منه، وقد يَكُون بغير ذلك من الاشتباه والأسْبَاب [المَانِعَة من] الخُرُوج عنها على طَريق المُعْجِزة الخارجة عن العَادَة.
قال بعضهم : إنَّ هارون وموسى لم يكُونَا فيهم، والصَّحِيح : أنَّهما كانا فيهم، ولم يكن لهما عُقُوبة لكن كما كَانَت النَّار على إبْرَاهيم بَرْداً وسَلاَماً وإنما كانت العقوبة لأولَئِك الأقْوام، ومات في التِّيه كل من دَخَلها ممن جاز عشرين سنة غير يُوشَع وكالب، ولم يدخل أريحاء أحَدٌ ممَّن قالوا :﴿إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ [أَبَداً]﴾ [المائدة : ٢٤] فلما هَلَكُوا وانْقَضت الأربعون
٢٧٨