فالجوابُ : أن التَّرك بقاء على العدم، وذلك لا يُمْكِن التَّوَسُّل به، بل من دَعَتْهُ الشهْوة [إلى فعل القَبِيح]، فتركه مرضاة اللَّه حصل التَّوسُّل إلى اللَّه بذلك الامْتِنَاع، لكنَّه من باب الأفْعَال، ولذلك قال المُحَقِّقُون : تَرْك [الشَّيء] عبارة عن فعل ضِدِّه.
ثم قال - تعالى - :﴿وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، لمّا أمر بِتَرْك ما لا يَنْبَغِي بقوله :" اتَّقُوا اللَّه " وفعل ما يَنْبَغِي بقوله ﴿وَابْتَغُوا ااْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ وكل واحد منهما شاقٌّ ثَقِيل على النَّفْس فإن النَّفْس تَدْعُو إلى اللَّذَّات المَحْسُوسَة، والعَقْل يدعو إلى خِدْمَة اللَّه وطاعتهِ والإعْرَاض عن المَحسُوسَات ؛ فكان بَيْن الحَالَتيْن تضَادٌّ وتناف، وإذا كان الأمْر كذلك فالانْقِيَادُ لقوله تعالى ﴿وَابْتَغُوا ااْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ من أشقِّ الأشْيَاء على النَّفْس وأشدها ثقلا على الطَّبع، فلهذا أرْدَف ذلك التَّكْليف بقوله ﴿وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ولمّا أرشد المُؤمِنِين في هذه الآية إلى معاقدِ الخَيْرَات ومَفَاتِح السَّعاداتِ، أتْبَعَهُ بشرح حَالِ الكُفَّار.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣١١
قد تقدم الكلام على " أنَّ " الواقعة بعد " لو " على أنَّ فيها مَذْهَبيْن.
و " لَهُمْ " خبر لـ " أنَّ "، و ﴿مَّا فِي الأَرْضِ﴾ اسمها، و " جميعاً " توكيد لهُ، أو حال منه و " مِثلَه " في نَصْبِه وجهان : أحدهما : عطف على اسم " أن " وهو " مَا " الموصولة.
والثاني : أنه منصُوب على المَعِيَّة، وهو رأي الزَّمخْشَرِي، وسيأتي ما يرد على ذلك والجوابُ عنه.
و " معهُ " ظرف واقع موقع الحال.
[ " واللام " ] متعلِّقة بالاستِقْرَار الذي تعلَّق به الخبر، وهو " لَهُمْ ".
و " به " و " مِنْ عذاب " متعلِّقان بالافْتِدَاء، والضَّمير في " بِهِ " عائدٌ على " مَا " الموصولة، وجيء بالضَّمِير مُفْرَداً وإن تقدَّمه شَيْئَان وهما ﴿مَّا فِي الأَرْضِ﴾ و " مِثْلَهُ "، إما لتلازُمهمَا فهما في حُكْم شيء واحد ؛ وإما لأنَّه حذف من الثَّانِي لدلالة ما في الأوَّل عليه، كقوله رحمة الله عليه :[الطويل]
٣١٣
١٩٦٠ -......................
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
أي : لو أنَّ لهم ما في الأرض لِيَفْتَدُوا به، ومثله معه ليفْتَدُوا به وإما لإجراء الضمير مُجْرَى اسم الإشارة، كقوله :[الرجز] ١٩٦١ -...................
كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ...........
وقال بعضهم : ليفْتَدُوا بذلك المَال.
وقد تقدم في " البقرة ".
و " عذاب " بمعنى : تَعْذِيب بإضافته إلى " يَوْم " خرج " يَوْم " عن الظرفية، و " مَا " نَافِية وهي جواب " لَوْ "، وجاء على الأكْثَر من كونِ الجواب النَّفي بغير " لام "، والجملة الامْتِنَاعية في محل رفع خبراً لـ " إن "، وجعل الزَّمَخْشَرِيُّ توحيد الضَّمير في " بِهِ " لمَدْرك آخر، وهو أنَّ " الوَاو " في " ومِثْلَهُ " [واو " مع " قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين : ويجُوزُ أن تكُونَ الواوُ في " ومِثله " ] بمعنى " مَعَ " فيتوحد المَرْجُوع إليه.
فإن قُلْتَ : فبم يُنْصب المَفْعُول معه ؟.
قلت : بما تسْتَدْعِيه " لَوْ " من الفعل ؛ لأن التَّقدير : لو ثبت أنَّ لَهُمْ ما في الأرض، يعني : أنَّ حكم ما قبل المفعُول معه في الخَبَرِ والحَالِ، وعود الضَّمِير حكمه لو لم يكن بعده مفعول معه، تقول :" كُنْتُ وَزَيْدَاً كالأخِ " قال الشاعر :[الطويل] ١٩٦٢ - فَكَانَ وَإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ
عَنِ المَاءِ إذْ لاقَاهُ حَتَّى تَقَدَّدَا
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣١٣
فقال :" كَحَرَّان " بالإفْرَاد ولم يقُلْ :" كحرَّانَيْن "، وتقول :" جَاءَ زَيْدٌ وهنْداً ضاحِكاً في داره ".
وقد اختار الأخْفَشُ أن يُعطى حُكْم المُتَعَاطفين، يعني : فَيطَابق الخبر، والحَال، والضمير له ولما بَعْده، فتقول :" كُنْتُ وَزيْداً كالأخوين ".
قال بعضهم : والصَّحِيح جوازه على قِلِّة.
وقد رد أبُو حيَّان على الزمخشري، وطوَّل معه.
قال شهاب الدِّين : ولا بد من نَقْل نصِّه ؛ قال : وقول الزمَخْشَرِي ويجُوزُ أن تكون " الواو " بمعنى " مع " ليس بِشَيْء ؛ لأنَّه يصير التقدير : مع مثله معه، أي : مع مِثْل ما
٣١٤


الصفحة التالية
Icon