وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه : أحدها : أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل بـ " أن " والفعل تقديره : أن يَأتِي بأن يفتح، وبأنْ يقول، فيقعُ الفصلُ بقوله " فَيُصبِحُوا " وهو أجنبي ؛ لأنَّه مَعْطُوف على " يأتي ".
الثاني : أن هذا المصْدر - وهو الفَتْح - ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك، نحو : يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك.
الثالث : أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل، فلا يكون المعنى على :" فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا "، فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً.
الثالث - من أوجُه نَصْب " ويقول " - : أنه منصوبٌ عَطْفاً على قوله :" يَأتي " أي : فَعَسَى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء.
وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبراً على ما هُوَ خَبَر، وذلك أن قوله :" أن يأتي " خبر " عَسَى " وهو صحيحٌ ؛ لأن فيه رابطاً عائِداً على اسم " عَسَى " [وهو ضمير الباري تعالى، وقوله :" ويقول " ليس فيه ضمير يعود على اسم " عسى " ] فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبراً ؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه : أحدها : أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى، والمعنى : فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح، وبقولِ الذين آمَنُوا، فتكون " عَسَى " تامَّة ؛ لإسنادها إلى " أنْ " وما في حَيِّزهَا، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ، وهذا قرِيبٌ من قولهم :" العطْفُ على التَّوهُّم " نحو :﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون : ١٠].
الثاني : أنَّ " أنْ يَأتِيَ " بَدَلٌ من اسْمِ الله - تعالى - لا خبر، وتكون " عَسَى " حينئذٍ تامَّة، وكأنه قِيل : فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ ؛ لأنهم نَصُّوا على أن " عَسَى " و " اخْلَوْلَق " و " أوْشَكَ " من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها :" أنْ يَفعل "، قالوا : ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه، كما قالوا ذَلِكَ في " ظَنّ " وأخواتها : إنَّ " أنْ " و " أنَّ " تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها.
والثالث : أن ثَمَّ ضميراً مَحْذُوفاً هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع " وَيَقُول " خبراً عن " عَسَى "،
٣٨٥
والتقدير : ويقول الذين آمَنُوا به، أي : بِاللَّه، ثم حذف للعلْم به، ذكر ذلك أبو البقاء.
وقال ابن عطيَّة بعد حكايته نَصْبَ " ويقُولَ " عَطْفاً على " يَأتيَ " :" وعندي في مَنْع " عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون " نظرٌ ؛ إذ اللَّه - تعالى - يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه ".
قال شهاب الدِّين : قول ابن عطيَّة في ذلك، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيراً عائداً على اسم " عَسَى " يَصِحُّ به الرَّبط، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة، وهو النَّصْب : إما عطفاً على " أنْ يَأتِي "، وإما على " فَيُصْبِحُوا "، وإمَّا على " بالفَتْح " وقد تقدم تَحقِيقُهَا.
قوله - تعالى - :﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ في انتصَابِه وجهان : أظهرهما : أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ " أقْسَمُوا " فهو مِنْ مَعْناه، والمعنى : أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين.
والثاني :- أجازه أبو البقاء وغيره - أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم :" افعل ذلك جَهْدَك " أي : مُجْتَهِداً، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظاً، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره، والمعنى هُنَا :" وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم ".
قوله تعالى :" إنَّهُم لمَعَكُمْ " هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم ؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ : إنَّا مَعَكُم، وفيه نَظَرٌ ؛ إذ يجُوز لك أن تقول :" حَلَفَ زيد لأفْعَلَن " أو " ليفْعَلَنَّ "، فكما جَازَ أنْ تقول : ليفعلن جاز أن يقال :" إنَّهُمْ لَمَعكُم " على الحِكَاية.
فإن قيل : الفائدة في أنَّ المؤمنين يقولون هذا القول : هو أنَّهم يتعجَّبُون من حال المُنَافِقِين، عندما أظهروا المَيْل إلى مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى، وقالوا : إنَّهم كانوا يُقسِمُون باللَّه جَهْدَ أيْمانهم أنَّهُم مَعَنَا ومن أنْصَارنا، والآن كيف صاروا مُوالِين لأعْدَائِنَا مُحِبِّين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم ؟ قوله تعالى :﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ فيها أوجه : حدها : أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي - تعالى - بذلك.
الثاني : أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك، وهو قولُ الله - تعالى - نحو :﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ﴾ [عبس : ١٧].
٣٨٦