٣٩٤
الثالث : أن تكون " الواوُ " للاستِئْنَاف، فيكون ما بَعْدَها جُمْلةً مُسْتَأنَفَةً مُسْتَقِلَّة بالإخْبار، وبهذا يَحْصُلُ الفَرْق بين هَذَا الوَجْهِ، وبين الوَجْهِ الذي جُوِّزَت فيه أن تكون " الوَاو " عَاطِفَةً، مع اعْتِقَادِنا أن " يُجَاهِدُون " مستَأنفٌ، وهو وَاضِح.
و " اللَّوْمَةُ " : المرَّة من اللَّوْمِ.
قال الزمخشري :" وفيها وفي التَّنْكِير مبالغتان، كأنَّه قيل :" لا يخافُون شيئاً قط من لَوْم أحَد من اللُّوَّام "، و " لومة " مصدر مُضاف لِفاعِلِه في المعنى.
فإن قِيلَ : هل يجُوزُ أن يكُونَ فاعِلُهُ مَحْذُوفاً، أي : لا يَخَافُون لَوْمَة لائِمٍ إيَّاهم ؟ فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجُوز عند الجُمْهُور ؛ لأنَّ المصدر المحدُودَ بتاء التَّأنيثِ لا يَعْمَل، فلو كان مَبْنيّاً على التَّاء عمل، كقوله :[الطويل] ١٩٨٦ - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ
عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا بِالْموَارِدِ
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٨٧
فأعمل " رَهْبَة " ؛ لأنه مَبْنِيٌّ على " التَّاء "، ولا يجُوز أن يعمل المَحْدُود بالتَّاءِ إلا في قَليلٍ في كلامهم ؛ كقوله :[الطويل] ١٩٨٧ - يُحَايِي بِه الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ
بِضَرْبَةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ
يصف رَجُلاً سقى رَجُلاً مَاءً فأحْيَاهُ به، وتيمّم بالتُّراب.
والمَلاَ : التُّراب، فنصب " المَلاَ " بـ " ضَرْبة "، وهو مصدر محدُود بالتَّاء وأصل " لاَئِم " : لاَوِم ؛ لأنه من اللَّوْم، فَأعِلَّ كـ " قََائِم ".
فصل في معنى الآية المعنى لا يخافُون في نُصْرة دِين اللَّه لَوْمة النَّاس، وذلك [أنَّ] المُنافِقِين يُرَاقِبُون الكفَّار ويَخَافُون لَوْمَهُم.
وروى عُبَادة بن الصَّامِت، قال : بايَعنا رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على السَّمْع والطَّاعة، وأن نَقُوم للَّه وأن نقُول الحَقَّ حيث ما كُنَّا لا نخاف في اللَّهِ لَوْمَة لائِم.
قوله تعالى :" وذلك " في المُشَار إليه ثلاثةُ أوجه : أظهرُها : أنه جَمِيع ما تقدَّم من الأوْصَاف التي وُصِفَ بها القَوْم، من المحبّةِ، والذِّلَّة، والعِزَّة، والمُجَاهدة في سبيل الله، وانتِفَاء خوف اللاَّئِمَة من كل أحَدٍ، واسْمُ الإشارَة يَسُوغُ فيه ذلك، أعْنِي : أنه يقع بِلَفْظِ الإفْرَاد مُشَاراً به لأكثر مِنْ وَاحدٍ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُهُ في قوله تعالى :﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ﴾ [البقرة : ٦٨].
٣٩٥
والثاني : أنَّه مشار به إلى حُبِّ اللَّه لهم، وحُبِّهم لَهُ.
والثالث : أنَّه مشارٌ به إلى قوله :" أذِلَّةٍ "، أي : لِينُ الجَانِب، وترك التَّرَفُّع، وفي هذين تَخْصِيصٌ غير وَاضِح، وكأنَّ الحَامِل على ذلك من مَجِيء اسمِ الإشَارَةِ مُفْرَداً.
و " ذَلِك " مبتدأ، و " فَضْلُ الله " خبرُه.
و " يُؤتِيهِ " يحتمل ثلاثة أوجُه : أظهرُهَا : أنه خَبَرٌ ثانٍ.
والثاني : أنه مُسْتَأنف.
والثالث : أنَّه في مَحَلِّ نصب على الحَالِ، كقوله تعالى :﴿وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود : ٧٢].
فصل ومعنى الكلام : أنَّ الوصف بالمحبَّة، والذلَّة، والعِزَّة، والمُجاهَدَةِ، وانتِفَاء خَوْفِ اللاَّئمة حصل بِفَضْل اللَّه - تعالى -، وهذا يدلُّ على أنَّ طاعَات العِبَاد مَخْلُوقة للَّه تعالى، والمعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونه على فِعْل الألْطَاف وهو بعيد ؛ لأنَّ فعل الألْطَاف عامٌّ في حقِّ الكُلِّ، فلا بدَّ في التَّخْصِيصِ من مَزِيدِ فَائِدة.
ثم قال - عزَّ وجلَّ - :﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، قالوا : فالوَاسِع إشَارَة إلى كمال المُقْدرة.
والعَلِيم إشارةٌ إلى كمال العِلْم، ومن هذا صِفَتُه - سُبْحَانه وتعالى -، فلا يُعْجِزُه أنَّه سيجيء بأقْوَام هذا شأنْهُم.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٨٧
لمَّا نَهَى عن مُوالاةِ الكُفَّار في الآيَات المُتقدِّمة بيَّن هاهُنَا من يجب مُوالاته.
قوله ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ﴾ مُبْتَدأ وخبر.
و " رَسُولُه " و " الَّذين " عَطْف على الخبر.
قال الزَّمَخْشَرِي : قد ذُكِرَتْ جماعةُ فهلاَّ قيل :" إنَّما أوْلِياؤُكم " ؟ وأجاب أنَّ الولاية بِطَرِيق الأصَالَة للَّه - تعالى - ثم نظم في سلك إثْباتها لِرَسُوله وللمُؤمِنين، ولَوْ جِيءَ به جَمْعاً، فقيل :" إنَّما أوْلِيَاؤُكم " لم يكن في الكلام أصْل وتبع.
قال شهاب الدِّين : ويحتمل وَجْهاً آخر، وهو أن " وَلي " بِزِنَةِ " فَعِيل "، و " فَعِيل " قد نصَّ عليه أهْلُ اللِّسَان أنَّهُ يقع لِلْواحد والاثْنَين والجماعة تَذْكيراً وتأنِيثاً بلفظ واحدٍ، يُقَال :" الزَّيْدُون صَدِيق " و " هِنْد صَدِيق "، وهذا مِثْله غاية ما فِيهِ أنَّهُ مقدَّم في التَّرْكِيب،
٣٩٦


الصفحة التالية
Icon