وقد أجَابَ الزَّمَخْشَرِي وغَيْره في قوله تعالى :﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ [هود : ٨٩] وذكر وَجْهَ ذلك، وهو شَبَهُهُ بالمصادر، وسَيَأتِي تحقِيقُه - إن شَاء اللَّه تعالى -.
وقرأ ابُن مسعُود :" إنَّما مولاكم الله "، وهي تَفْسِير لا قِرَاءة.
فصل في سبب نزول الآية روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّها نَزَلت في عُبَادَة بن الصَّامِت - رضي الله عنه - وعبد الله بن أبيِّ ابن سلُول - لَعَنَهُ اللَّه -، حين تَبَرأ عُبَادة من اليَهُود وقال : أتوَلَّى الله ورسوله والذين آمَنُوا، فنزل فِيهِم من قوله تعالى :﴿يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ﴾ [المائدة : ٥١]، إلى قوله تعالى :﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ يَعْني : عُبَادة بن الصَّامِت وأصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وقال جَابِر بن عبد الله - رضي الله عنهما - : جاء عَبْدُ الله بن سلام - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال : يا رسول الله :" إن قَوْمنا قُرْيَظَة والنَّضِير قد هَجَرُونا وفَارَقُونا وأقْسَمُوا ألاَّ يُجَالِسُونا " فنزلت هذه الآية الكريمة، فَقَرأهَا عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال : يا رسول الله رَضِينا باللَّه وبرسُوله وبالمُؤمنين أوْلياء، وعلى هذا التَّأويل أراد بقوله - تعالى - :" وَهُمْ رَاكِعُون " صلاة التَّطَوُّع باللَّيْل والنَّهَار.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والسُّديُّ - رحمه الله - : قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، أراد به على بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرَّ به سَائِلٌ وهو رَاكِعٌ في المَسْجِد فأعطاه خاتمه، وقال جُوَيْبِر عن الضَّحَّاك في قوله تعالى :﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [قال : هم المُؤمِنُون بعضهم أوْلِيَاء بعض، وقال أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر :﴿إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا﴾ نزلت] في
٣٩٧
المُؤمنين، فقيل له : إن ناساً يقولون : إنَّها نزلت في عَلِيٍّ - رضي الله تعالى عنه - قال : هو من المُؤمنين.
قوله تعالى :﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾ فيه خَمْسَة أوْجُه : أحدها : أنَّهُ مَرْفُوع على الوَصْف، لقوله تعالى :" الَّذِين آمَنُوا ".
وصف المؤمنين بإقام الصلاة، وإيتاء الزَّكاة، وذكر هَاتَيْن العبادَتيْن دون سَائِر فُروع الإيمان ؛ لأنَّهما أفْضَلُهُمَا.
الثاني : أنَّه مرفوع على البَدَل من " الَّذِين آمَنُوا ".
الثالث : أنه خَبَرُ مُبْتَد مَحْذُوف، أي : هُمُ الذين.
الرابع : أنه عَطْف بَيَان لما قبله ؛ فإنَّ كل ما جاز أنْ يَكُون بدلاً جاز أن يكون بَيَاناً، إلا فيما اسْتُثْنِيَ كما تقدَّم.
الخامس : أنه مَنْصُوب بإضمار فِعْل، وهذا الوجه والَّذِي قَبْله من باب القَطْعِ عن التَّبِعيَّة.
قال أبو حيَّان - بعد أن نَقَل عن الزَّمَخْشَرِي وَجْهَي البدل، وإضمار المُبْتَدأ فقط - :" ولا أدْرِي ما الَّذِي مَنَعَهُ من الصِّفة، إذ هو المُتَبَادَرُ إلى الذِّهن، ولأنَّ المُبْدَلَ منه على نِيَّةِ الطَّرْح ؛ وهو لا يصحُّ هنا ؛ لأنَّه هو الوَصْف المترتِّبُ عليه صحّة ما بعده من الأوْصَاف ".
قال شهاب الدِّين : لا نسلِّم أنَّ المتَبَادر إلى الذِّهْنِ الوَصْف، بل البَدَل هو المُتبَادر، وأيضاً فإن الوَصْف بالموصول على خِلاف الأصْل ؛ لأنَّه مؤوَّل بالمُشْتَقِّ وليس بمُشْتَقٍّ، ولا نُسلِّم أن المُبْدَل مِنْه على نِيَّة الطَّرْح، وهو المَنْقُول عن سِيبوَيْه.
قوله :" وَهُمْ رَاكِعُون " في هذه الجُمْلَة وجهان : أظهرهما : أنَّها معطوفة على ما قَبْلَها من الجُمَلِ، فتكون صِلَةً للمْوصُول، وجاء بهذه الجملة اسميَّةً دون ما قَبْلَها، فلم يَقُلْ :" يَرْكَعُون " اهتماماً بهذا الوَصْف، لأنَّه أظهر أرْكَان الصلاة.
والثاني : أنَّها " واو " الحال، وصاحبُها هو واو " يُؤتُون ".
والمراد بالرُّكُوع الخُضُوع أي : يُؤتُون الصَّدَقة، وهم مُتُواضِعُون للفُقَراء الَّذين يتصَدَّقُون عليهم.
ويجُوز أن يُراد به الرُّكُوع حَقِيقةً ؛ كما تقدَّم عن عَلِيّ - رضي الله عنه -.
٣٩٨
وقال أبو مُسلمِ : المراد من الرُّكوع : الخُضُوع، أي : يُصَلُّون ويَركَعُون وهم مُنْقَادُون خَاضِعُون لجميع أوَامِرِ اللَّه ونواهيه.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٩٦


الصفحة التالية
Icon