وقيل : هو المعبود في السَّمواتِ والأرض.
وقال محمد بن جرير : معنيان : وهو اللَّهُ يعلمُ سرّكم وجهركم في السموات والأرض، يعلمُ ما تَكْسِبُونَ من الخيرِ والشَّر.
فصل في شبكة إنكار الفوقية استدلَّ القائلون بأنَّ الله في السموات بهذه الآية.
قالوا : ولا [يلزمنا] أن يقال : فيلزم أن يكون في الأرض لقوله :" في الأرض " وذلك يقتضي حُصُولهُ في مكانين مَعاً، وهو مُحَالٌ ؛ لأنَّا نقول : أجمعنا على أنه لَيْسَ مَوْجُوداً في الأرْضِ، ولا يَلْزمُ من ترك العَمَل بأحد الظَّاهرين ترك العمل بالظَّاهر الآخر من غير دليلٍ، فوجبَ أن يبقى قوله :﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَات﴾ على ظاهره ولأن من القراء من وقف عند قوله :﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَات﴾، ثم يبتدئ فيقول :" وفي السموات والأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ "، والمعنى أنه تعالى يعلمُ سَرَائِرَكُمْ الموجودة في الأرْضِ، فيكون قوله :" وَفي الأرْضِ " صِلَةٌ لقوله :" سِرَّكُمْ ".
قال بان الخطيب : والجوابُ : أنَّا نُقِيمُ الِّدلالة أوّلاً على أنه لا يُمْكِنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظَاهِرِهِ، وذلك من وجوه.
أحدهما : أنَّهُ قال في هذه السورة :﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للَّهِ﴾ [الأنعام : ١٢] فَبَيَّن أنَّ كُلَّ ما في السموات والأرض، فهو مِلْكٌ لله تعالى ومملوك له فلو كان اله أحد الأشياء الموجودة في السموات لزم كونه ملك نفسه، وذلك مُحَالٌ وكذا قوله : في " طه " ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [طه : ٦].
فإن قالوا : كلمة [ " ما " ] مختصَّةٌ [بمن لا يعقل] فلا يدخل فيها ذاتُ اللَّهِ.
قلنا : لا نُسَلِّمُ بدليل قوله :﴿وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس : ٥ - ٧].
وقوله :﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُد﴾ [الكافرون : ٣] والمراد بكلمة " ما " ها هنا " هو اللَّهُ تعالى ".
وثانيها : أنَّ قوله :" وهُوَ الله في السمواتِ " إمَّا أنْ يكون المُرَادُ منه أنَّهُ مَوْجُودٌ في جميع السمواتِ، أو المراد أنَّهُ مَوْجُودٌ في سماء واحدة.
والثاني ترك للظِّاهِر، والأوَّلُ على قسمين، لأنَّهُ إما أن يكون الحاصل منه -
٢٤
تعالى - في أحد السَّمواتِ عين ما حصل منه في سائ السَّمواتِ أو غيره، والأوَّل يقتضي حُصُكول المتحيّز الواحد [في مَكَانَيْنِ، وهو باطلٌ ببديهَةِ العَقْلِ].
والثاني يقتضي كونه - تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ والأبْعَاضِ، وهو مُحَالٌ.
وثالثها : أنَّهُ لو كان مَوْجُوداً في السَّموات لكان مَحْدُوداً متناهياً وكُلُّ ما كان كذلك كان قَبُولُهُ للزيادة والنُّقْصَانِ مُمْكناً، وكُلُّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ.
ورابعها : أنَّهُ لو كان في السَّمواتِ، فهل يَقْدرُ على خَلْقِ عالم آخر فوق هذه السموات أو لا يَقْدِر ؟ وذلك من وجهين : والثاني يوجبُ وهو مُحَالٌ والأول يقتضي أنَّهُ - تعالى - لو فعل ذلك لحَصلَ تَحْتَ ذلك العالم، والقوم منكرون كونه تحت العالم.
وخامسها : أنه تعالى قال :﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد : ٨٤] وقال ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق : ١٦].
وقال :﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إله وَفِي الأَرْض﴾ [الزخرف : ٨٤] وقال :﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة : ١١٥] وكُلُّ ذلك يُبْدِلُ القولَ بالمَكَانِ والجهة، وإذا ثبت بهذه الدَّلائلِ أنَّهُ لا يمكنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظاهره، وجَبَ التَّأويلُ، وهو من وجوه : الأول : أنَّ قوله :﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْض﴾، أي : في تدبير السمواتِ والأرض، كما يقال :" فلانٌ في أمْرِ كذا " أي : في تدبيره، وإصْلاحِ مُهِمَّاتِهِ، كقوله :﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَـاه﴾ ٨٤].
الثاني : أنَّ قوله :[تَمَ] عند قوله :" وهُوَ اللَّهُ " ثُمَّ ابتدأ، فقال :" في السَّمواتِ وفِي الأرْض يَعْلمُ سِرَّكم وجهْرَكُم "، أي : يَعْلمُ ما في السَّمواتِ الملائكة، وفي الأرض يعلمُ سَرائِرَ البَشَرِ الإنْس والجن.
الثالث : أنْ يكون الكلامُ على التقديم والتأخير، وهو " اللَّهُ يَعْلَمُ ما في السموات، وما في الأرض سِرَّكُم وجهركم ".
فصل في بيان معنى " ما تكسبون " قوله :" ويَعْلمُ ما تكسبون " فيه سؤال، وهو أنَّ الأفعال إمَّا أفعال القُلُوبِ، وهو المُسَمَّى بالسِّرِّ، وإمِّا أعمال الجَوَارحِ، وهي المُسَمَّاةُ بالجَهْرِ، فالأفعالُ لا تخرجُ عن السِّرِّ والجهر.
٢٥