فكان قوله :﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون﴾ يقتضي عَطْفَ الشيء على نفسه، وإنَّهُ فاسدٌ.
والجوابُ يجبُ حَمْلُ قوله :" مَا تَكْسِبُونَ " على ما يتسحقُّهُ الإنسانُ على فِعْلِه من ثوابٍ وعقابٍ.
والحاصلُ أنَّهُ مَحْمُلٌ على ا لمُكْتَسَبِ كما يُقَالُ :" هذا كَسْبُ فلان "، أي : مُكْتَسَبُهُ، ولا يجوز حَمْلُهُ على نفس الكَسْبِ ؛ لأنَّهُ يلزم منه عَطْفُ الشيء على نفسه والآية تدل على كون الإنسان مكتسباً للفعل، والكَسْبُ هو الفعلُ المُفْضِي إلى اجْتِلاَبِ نَفْع، أو دَفْع ضَرَرٍ، ولا يوصف فعلُ اللِّهِ بأنه كَسْبٌ لكونه - تعالى - مُنَزَّهٌ عن جَلْبِ النَّفْعِ، ودَفْعِ الضرر.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩
" فاعل زيدت فيه " مِنْ " لوُجُودِ الشرطين، فلا تَعَلُّقَ لها.
و " من آيات " صفة لـ " آية "، فهي في مَحَلِّ جرٍ على اللَّفْظِ، أو رفعٍ على الموضع.
وقال الوَاحِدِيِّ :" مِنْ " في قوله :" مِنْ آية " صفةٌ لـ " آية " أي : آية لاستغراق الجنْسِ الذي يقع في النَّفيِ، كقولك : ما أتاني من أحدٍ ".
والثانية : في قوله :" من آياتِ رَبِّهِم " للتبعيض.
والمعنى : وما يظهر لهم دَلِيلٌ قط من الدَّلائِل التي جيب فيها النَّظَرُ والاعتبار، إلاَّ كانوا عنها مُعْرِضينَ، والمُرادُ بهم أهل " مكة "، والمرادُ بالآيات : إنْشِقاقُ القمر وغيره.
وقال عطاء : يريد : من آيات القرآن.
قوله :" إلاَّ كَانُوا " هذه الجملة الكَوْنِيَّةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، وفي صاحبها وجهان : أحدهما أنَّهُ الضميرُ في " تأتيهم ".
و " تأتيهم " يحتمل أن يكون ماضي المعنى لقوله :" كَانُوا "، ويحتمل أنْ يكون مُسْتّقْبَلَ المعنى ؛ لقوله " تَأتيهِمْ ".
واعلم أنَّ الفعْلَ الماضي لا يَقَعُ بَعْدَ " إلاَّ " بأحد شَرْطَيْنِ : إمَّا وقوعه بَعْدَ فِعْلٍ
٢٦
كهذه الآية، أو يقترن بـ " قد " نحو :" ما زيدٌ إلاَّ قد قام " وهنا الْتِفَاتٌ من خطاه بقوله " خلقكم " إلى آخره إلى الغيبةِ بقوله :" وَمَا تَأتِيهم ".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٦
" الفاء " هنا للتَعْقِيب، يعني : أنَّ الإعْرَاض عن الآيات أعْقَبَهُ التَّكْذِيبُ.
وقال الزمخشري :" فَقَدْ كَذَّبوا " مردودٌ على كلام محذوف، كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها.
وقال أبو حيان : ولا ضرورة تدعو إلى في انتظام الكلام وقوله :" بالحق " من إقامة الظاهر مقام المُضْمَرِ، إذ الأصل : فقد كذبوا بها أي : بالآية.
فصل في بيان المراد " بالحق " والمُرَادُ بالحقِّ ها هنا القرآن.
وقيل :[محمد ﷺ وقيل :] جميع الآيات.
فصل واعلم أنَّهُ - تعالى - رتّبَ أمورَ هؤلاء الكُفَّارِ على ثلاث مراتب : أولها : كونهم معرضين عن التأمُّلِ والتَّفَكُّرِ في الدَّلائل [والبَيِّنَات].
والمرتبة الثانية : كونهم مكذّبين بها، وهذه أزْيّدُ مما قَبْلَهَا ؛ لأنَّ المُعْرِضَ عن الشِّيء قد لا يكون مكذباً به، بل قد يكون غَفِلَ عنه ؛ صَارَ مُكَذِّباً به، فقد زاد على الإعْرَاضِ.
والمرتبة الثالثة : كونهم مُسْتَهْزِئينَ بها ؛ [لأن المكذب] بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدِّ الاسْتِهْزَاءِ، فإذا بلغ إلى هذا الحَدَّ، فقدْ بَلَغَ الغَايَة القُصْوَى في الإنكار، [ثُم] بَيَّن - تعالى أنَّ أولئك الكُفَّار وصلوا في هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب.
قوله تعال :﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾.
" الأنبياء جمع " نبأ " وهو ما يعظم وقعه من الأخبار، وفي الكلام حَذْفٌ، أي : يأتيهم مَضْمونُ الأنباء، و " به " متعلّق بخبر " كانوا ".
٢٧
و " لمّا " حرف وجوب أو ظرف زمان، والعامل فيه " كذبوا " و " ما " يجوز أن تكون موصولةٌ اسميةً، والضميرُ في " به " عائد عليها، ويجوز أن تكون مصدرية.
قال بان عطيّة : أي : أنباء كونهم مستهزئين، وعلى هذا فالضميرُ لا يعودُ عليها ؛ لأنها حرفية ؛ بل تعود على الحقِّ، وعند الأخفش يعود عليها ؛ لأنها اسم عنده.
ومعنى الآية : وسوف يأتيهم أخبارُ اسْتِهْزَائهِمْ وجَزَاؤهُ، أي : سيعلمون عاقبة اسْتهْزَائِهِمْ إذا عُذِّبُوا، فقيل : يوم " بدر " وقيل : يوم القيامة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٧