قالوا : لأنَّها إذا طَلَبَتْهُ حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّتْ.
 قوله :﴿وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ﴾ إن جعلنا " جَعَلَ " تَصْييريةً كان " تجري " مفعولاً ثانياً،  وإن جعلناها إيجادِيَّةً كان حالاً.
 و " من تحتهم " يجوز فيه أوجه : أن يكون متعلّقاً بـ " تجري "،  وهو أظهرها،  وأن كون حالاً،  إمَّا من فاعل " تجري "،  أو من " الأنهار "،  وأنْ يكون مفعولاً ثانياً " جَعَلْنَا " و " تجري " على هذا حالٌ من الضمير في الجَازَّ،  وفيه ضَعْفٌ لتقدُّمِهَا على العامل المَعْنَوِيّ،  ويجوز أن يكون " من تحتهم " حالاً من " الأنْهَار " كما تقدَّم،  و " تجري حالٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ فيه،  الضَّعْفُ المتقدّمُ.
 فصل المُرَادُ من قوله :﴿وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ﴾ كَثْرَةُ البَسَاتيِن،  والمعنى أنهم وَجَدُوا من مَنَافع الدُّنيا أكثر مما وَجَدَهُ أهلُ " مكَّة " المشرفة،  ثُمَّ مع هذه الزيادة في العِزِّ،  وكثرة العدد والبَسْطَةِ في المال والجِسْمِ لمَّا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم،  وهذا يوجب الاعتبار.
 فإن قيل : ليس في هذا الكلام إلاَّ أن الإهلاك غي مختصّ بهم،  بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد لهكوا فكيف يحسنُ إيرادُ هذا الكلام في مَعْرضِ الزَّجْرِ عن الكُفْرِ مع أ،  ه يشترك فيه الكَافِرُ والمؤمنُ ؟.
 فالجوابُ : ليس المقصود منه الزَّجْر بمجرد المَوْتِ،  والهلاك،  بل المُرَاد منه أنهم بَاعُوا الدَّينَ بالدنيا ؛ فعوقبوا بسبب الامْتِنَاعِ عن الإيمان،  وهذا المعنى مُشْتَرَكٍ بين الكافر والمؤمن.
 فإن قيل : كيف قال :" أوْ لَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنَا " مع أنَّ القَوْمَ ماتوا مُقِرِّين بِصِدْقِ محمد ﷺ فيما يخبر به عنه،  وأيضاً فهم لم يُشَاهدوا وقَائِعَ الأمم السَّالفة ؟ فالجواب : أنَّ [أقَاصِيصَ المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم،  ومجرد سماعها يكفي في الاعتبار.
 فإن قيل : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم ؟ فالجواب : أن] فائدته التَّنْبِيهُ أنَّه لا يَتَعَاظَمُهُ إهْلاكُهُمْ وإخْلاَءُ بلادهم منهم،  فإنه قَادِرٌ على إنشاء آخرين مَكَانَهُمْ يُعِّمرُ بهم بلاده،  كقوله :﴿وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس : ١٥].
٣٥
و " من بعدهم " متعلِّق بـ " أنشأنا ".
 قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون حَالاً من " قرن " ؛ لأنه ظَرفُ زمان يعني : أنه منه ؛ لكنه منعن ذلك كونُهُ ظرف زمان والزَّمَانُ لا يُخْبَرُ به عن الحَدَثَ ولا يُوصَفُ،  وقد تقدَّمَ أنه يصحُّ ذلك بتأويل في " البقرة " عند قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة : ٢١] و " آخرين " صِفَةٌ لـ " قَرْن " ؛ لأنه اسم جَمْع كـ " قوم " و " رهط "،  فذلك اعْتُبِر معنها،  ومن قال : إنَّهُ قدَّرَ مُضَافَاً،  أي : أهل قرن آخرين،  وقد تقدَّمَ أنَّهُ مرْجُوحٌ،  واللَّهُ أعلم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٨
قال الكلبي ومقاتل : تزلت هذه الآية في النَّضْرِ بن الحَرْثِ،  وعبد الله بن أبي أميَّةَ،  ونوفل بن خُوَيْلدٍ قالوا : يا محمد لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تأتينا بكتاب من عندِ اللَّهِ،  ومعه أربعةٌ من الملائكة يَشْهدُونَ معه أنَّهُ من عند الله،  وأنَّك رسوله،  فأنزل الله تعالى :﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ﴾ مكتوباً من عنده " فَلَمَسُوه بأيديهم " أي : عَايَنُوهُ ومَسُّوهُ بأيديهم،  وذكر اللَّمْسَ ولم يذكر المُعَايَنَةَ،  لأن اللَّمْسَ أبْلَغُ في إيقاع العِلْمِ من الرؤية،  ولأنّ السِّحْر يجري على المرئي،  ولا يجري على الملموس.
 قوله :" فِي قِرْطَاسٍ " يجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ لـ " كتاب "،  سواء أريد بـ " كتاب " المصدرُ،  أم الشيْ المكتوب،  ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله :[الطويل] ٢١١٣..................
صَحِيفَة
ً أتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
ومن النَّاس من جعل " كتاباً " في الآية الكريمة مَصْدَراً ؛ لأن نَفْسَ الكُتُبِ لا تُوصَفُ والقِرْطاس : الصَّحِيفة يُكتبُ فيها تكُون من رقِّ وكَاغِدٍ،  بكسر القاف وضمها،  والفصيح الكسر،  وقرئ بالضّم شاذّاً نَقَلَهُ أبو البقاء - رحمه الله تعالى - 
٣٦
والقِرْطَاسُ : اسم أعْجِمِيُّ مُعَرَّبٌ،  ولا يقال : قِرْطَاس إلاَّ إذا كان مكتوباً،  وإلاَّ فهو طِرْسٌ وكَاغِدٌ،  وقال زهير :[البسيط] ٢١١٤
 - لَهَا أخَادِيدُ مِنْ آثَارِ سَاكِنِها
كَمَا تَردَّدِ فِي قِرْطَاسِهِ القَلَم