والمراد من قوله تعالى :﴿ثُمَّ لاَ يُنظَرُون﴾ فالفائدة في " ثم " التنبيه على أنَّ عَدَمَ الإنظار أشدُّ مُضِيَّ الأمر ؛ لأن المُفَاجَئَةَ أشَدُّ من نفس الشدة.
قال قتادة :﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً﴾ ثمَّ لم يؤمنوا لعُجِّلَ لهم العذاب ولم يُؤخَّرْ طَرْفَةَ عَيْنِ.
وقال مجاهد :" لقضي الأمر "، أي : لقامت القيامة.
وقال الضحَّاك : لو أتاهم ملكٌ في صورته لماتوا.
قوله :﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً﴾ يعني : لو أرسلناه إليهم مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً يعني في صورة رجلٍ آدمي ؛ لأنهم لا يستطيعون النَّظَرَ إلى الملائكةِ، كان جبريل عليه السلام يأتي النبي ﷺ في صورة دِحْية الكلبي وجاء الملكان إلى دَاوُد عليه السلام في صورةِ رَجُلّيْنِ، ولأن الجنس إلى الجنس أميلُ وأيضاً فإنَّ طَاعَة الملائكة قَوِيَّةٌ، فَيَسْتحْقِرُونَ طَاعَاتِ البَشَرِ، ورُبَّما لا يعذرونهم بالإقدام على المعاصي.
قوله تعالى :﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون﴾ في " ما " قولان : أحدهما : أنها مَوْصولةٌ بمعنى " الذي "، أي : ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، أو على غيرهم، قاله أبو البقاء - رحمه الله تعالى - وتكون " ما " حينئذٍ مفعولاً بها.
الثاني : أنَّها مَصْدَريَّةٌ، أي : ولَلَبْسنا عليهم مَثْلَ ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم، والمعنى شَبَّهوا على ضعفائهم فشُبِّهَ عليهم.
قال ابن عباس : هُمْ أهْلُ الكتاب، فَرَّقُوا دينهم وحَرَّفُوا الكَلِمَ عن مَوَاضَعِه، فَلَيَسَ اللَّهُ عليهم ما يلبسون.
وقرأ ابن مُخَيْصِن :" وَلَبَسْنا " بلام واحدة هي فاء الفَعْلِ، ولم يأت بلامٍ في الجواب اكْتِفَاءَ بها في المَعْطُوف عليه.
وقرأ الزهري :" ولَلَبَّسْنا " بلامين وتشديد الفعل على التَّكْثيرِ.
قال الواحدي : يقال لَبَّسْتُ الأمْرَ على القَوْمِ ألبَّسُهُ إذا شَبَّهْته عليهم،
٣٩
وجعلته مُشْكلاً، وأصله من التَّستُّرِ بالثوب، ومنه لُبْسُ الثوبِ، لأنه يُفيد سَتْرَ النفسِ، والمعنى : إذا جَعَلْنَا الملكَ في صيورة البَشَرِ، فهم يظنون أن ذلك المَلَكَ بَشَراً، فيعود سؤالهم أنَّا لا نرضى برسالة هذا الشَّخْصِ، واللَّهُ أعلم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٧
قرأ حمزة، وعاصمٌ، وأبو عمرو بكشر الدَّال على أصل الْتِقَاءِ السَّكِنَيْنِ، والباقون بالضمن على الإتباع، ولم يبالِ بالساكن ؛ لأنه حَاجِزٌ غير حصين وقد تَقَرَّرَتُ هذه القاعدة بدلائلها في سورة " البقرة " عند قوله تعالى :﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ [الآية : ١٧٣] و " برسلٍ " متعلّق بـ " استهزئ " و " منْ قبلك " صفة لـ " رسل "، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع " من قبل " صلة.
والمرادُ من الآية : التَّسْلية لِقَلْبِ الرسول ﷺ أي : أن هذه الأنواع الكثيرة التي يعاملونك بها كنت موجودة في سائِر القرون.
قوله :" فحاق بالذين سخِروا " ن فاعل " حاق " :" ما كانوا "، و " ما " يجوز أن تكون موصُولةٌ اسميةً، والعائد " الهاء " في " به " و " به " يتعلَّق بـ " يستهزئون "، و " يستهزئون " خبر لـ " كان "، و " منهم " متعلّق بـ " سخروا " على أنَّ الضمير يعود على الرُّسل، قال تبارك وتعالى :﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ [هود : ٣٨].
ويجوز أن يتعدَّى بالباء نحو : سَخِرْت به، ويجوز أن يتعلّق " منهم " بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من فاعل " سَخِروا " والضمير في " منهم " يعود على الساخرين.
وقال أبو البقاء :" على المستهزئين ".
وقال : الحوفي :" على أمَمِ الرسل ".
وقد رَدَّ أبو حيَّان على الحوفي بأنه يَلْزَمُ إعادته على غير مذكور.
وجوابُهُ في قوة المذكور، وردَّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى : فحاق بالذين سَخِرُوا كائنين من المستهزئين، فلا حَاجَة إلى هذه الحال ؛ لأنها مفهومةٌ من قوله :" سخروا " وجوَّزوا أن تكون " ما " مصدريَّةً، ذكره أبو حيَّانَ ولم يتعرض للضمير في " به ".
٤٠
والذي يظهر أنه يعود على الرسول الذي يَتَضَمَّنُهُ الجَمْعُ، فكأنه قيل : فَحَاقَ بهم عَاقِبَةُ استهزائهم بالرسول المُنْدَرجِ في جملة الرُّسُلِ، وأمَّا على رأى الأخْفَشِ، وابن السراج فتعود على " ما " المصدريّة ؛ لأنها اسم عندهما.
و " حاق " ألفه مُنْقَلِبَةٌ عن " ياء " بدليل " يَحِيق " ن كـ " باع " " يبيع "، والمصدر حَيْق وحُيُوق وحَيَقان كالغَلَيان والنَّزَوان.
وزعم بعضهم أنه من " الحَوْق "، والمستدير بالشيء، وبعضهم أنه من " الحقّ "، فأبدلت إحدى القافين ياءً كَتَظَنَّنتُ، وهذان لَيْسَا بشيء.
أمَّا الأول فلاختلاف المَادَّةِ، إلاَّ أن يريدوا الاشتقاق الأكبر.
وأما الثاني : فلأنها دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ من غير دليلٍ، ومعنى " حاق " أحاط.
وقيل : عاد عليه وبَالُ مَكْرهِ، قاله الفراء.
وقيل : دَارَ.
٤١