والتقدير : مَنْ يكرم اللَّهُ، أو من يُنَجِّ يُصْرَفْ عنه العذابُ أو هولُ يومئذ، ونظيره :" زيدٌ به مُرُور حسن "، أقمت المصدر فبقي " عنه " منصوب المَحَلّ.
والتقدير : جاوزت زيداً مُرَّ به مُرُور حسن، وأمَّا جُعل " عنه " قائماً مقام الفاعل تعيَّنَ رفعهُ بالابتداء.
وأعلم أنه متى قلت : مَنْصُوبٌ على الاشتغال، فإنما يُقدَّر الفعل بعد " مِنْ " ؛ لأن لها صدر الكلام، ولذلك لم أظْهِره إلاَّ مؤخّراً، ولهذه العِلَّةِ منع بعضهم الاشتغال فيما له صَدْرُ الكلام كالاسْتِفهَامِ والشرط.
والتنوين في " يومئذٍ يكون الجزاء، وإنَّما قلنا ذلك ؛ لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عَوَضاً منهان وقد تقدَّم خلافُ الأخفش.
وهذه الجملة الشَّرطيَّةُ يجوز فيها وجهان : الاستئناف، والوصف لـ " عذاب يوم "، فحيثُ جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم، إمَّا مِنْ " يُصَرف "، وإمَّأ مِنْ " عنه " جاز أن تكون صفةٌ وهو الظَّاهر، وأن تكون مُسْتأنفةً، وحَيْثُ لم نجعلُ فيها ضميراً يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تعيَّنَ أن تكون مُسْتَأنَفَةً، ولا يجوز أن تكون صِفَةً لخلوِّها من الضمير.
وَرجَّع بعضهم إحْدى القراءَتَيْنِ على الأخرى، وذلك على عَادتِهِمْ، فقال أبو عَلِيِّ الفارسي : قراءة " يَصْرِف " يعني المبنيَّ للفاعل أحْسَنُ لمناسبة قوله :" رحمه "، يعني : أنَّ كُلاَّ منهما مَبْنيُّ للفاعل، ولم يقل :" فقد رُحِمَ " واختارها أبو حَاتِم، وأبو عُبَيْد، ورجَّعَ بعضهم قراءة المبنى للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله :﴿لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود : ٨] يعني في كونه أتى بصيفة اسم المَفْعُول المُسْنَدِ إلى ضمير العذابِ المذكور أوَّلاً.
ورجَّحَهَا محمد بن جرير بأنها أقَلُّ إضماراً، ومكي - رحمه الله - تَلَعْثَم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين، وأتى بأمثلةٍ فَاسِدَةٍ في كتاب " الهداية " له.
قال ابن عطية :" وقد تقدَّمَ أوَّلَ الكتاب عن ثَعْلبٍ وغيره من العلماء أنَّ ترجيح إحدى القراءاتِ المتواترة على الأخرى بحيث تُضِعَّفُ الأخرى لا يجوز ".
والجملة من قوله :" فقد رحمه " في محلّ جَزْمٍ على جواب الشرط والفاء واجبة.
قوله :" وذلِكَ الفَوزُ " مبتدأ وخبر جيء بهذه الجُمْلَةِ مقرِّرةً لما تقدَّم من مضمون
٦٠
الجملة قبلهان والإشارَةُ بـ " ذلك " إلى المَصْدَرِ المفهوم من قوله :" يُصْرف "، أي : ذلك الصرف.
و " المبين " يحتمل أن يكون مُتَعَدِّياً، فيكون المفعول مَحْذُوفاً، أي : المبين غيرَه، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين، وقد تقدَّمَ أنَّ " أبان "، يكون قاصراً بمعنى " ظَهَرَ "، ومتعدّياً بمعنى " أظهر ".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٥٧
هذا دليل آخر في بَيَانِ أنه لا يجوز للعاقلِ أنْ يتّخذ ولياً غير الله.
و " الباء " في قوله :" بِضُرِّ " للتعدية، وكذلك في " بخير "، والمعنى : وإن يمسك اللَّهُ الضُّرَ، أي : يجعلك ماسَّاً له، وإذا مست الضر فقد مَسَّك، إلاَّ أن التَّعديَةَ بالباء في الفعل المُتَعَدِّي قليلةٌ جداً، ومنه قولهم :" صَكَكْتُ أحَدَ الحجرين بالآخر ".
وقال أبو حيان : ومنها قولهك تعالى ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة : ٢٥١].
وقال الواحدُّ :- رحمه الله - :" إن قيل : إن المَسَّ من صِفَةِ الأجَسْامِ فكيف قال : وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ ؟ فالجواب " الباء " لتعدية، والباء والألف يتعاقَبَانِ في التَّعديَةَ، والمعنى : إن أمَسَّك اللَّهُ ضُرّاً، أي : جعله مَاسَّك، فالفعلُ للضُّرِّ، وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسمِ اللَّهِ تعالى، كقولك :" ذهبَ زيدٌ بعمرو "، وكان الذَّهابُ فِعْلاً لعمرو، غير أن زيداً هو المُسَبِّبُ له والحاملُ عليه، كذلك هنا الميسُّ للضُرِّ، والله - تعالى - جعله مَاسّاً ".
قوله :" فلا كاشف له " :" له " " : خبر " لا "، وثمَّ مَحْذُوفٌ تقديره : فلا كاشف له عنك، وهذا المحذوف لي متعلِّقاً بـ " كاشف "، إذ كان يلزمُ تنوينه وإعرابه، بل يتعلَّق بمحذوف، أي : أغني عنه.
و " إلاَّ هو " فيه وجهان : أحدهما : أنه بدلٌ من مَحَلّ " كاشف " فإن مَحَلَّه الرفع على الابتداء.
والثاني : أنه بَدَلٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ في الخبر، ولا يجوز أن يرتفع باسم الفاعل، وهو " كاشف " ؛ لأنه مطوَّلاً [ومتى كان مطوَّلاً] أعْرِبَ نَصْباً، وكذلك لا يجوز أن يكون بَدَلاً من الضمير المُسْتَكِنّ في " الكاشف " للعلَّةِ المتقدّمة ؛ إذ يحلُّ مَحَلُّ مَحَلَّ المبدل منه.
٦١