فإن قيل : المقابل للخير هو الشَّر، فكيف عدل عن لَفْظِ الشَّرِّ ؟ والجواب أنه أراد تَغْلِيبَ الرحمة على ضِدِّهَا، فأتى في جانب الشَّرِّ بأخَصَّ منه وهو الضُّرُّ، وفي جانب الرَّحْمَةِ بالعام الذي هو الخَيْرُ تعليباً لهذا الجانب.
قال ابن عطية : نابَ الضُّرُ مَنَابَ الشِّرِّ، وإن كان الشِّرُّ أعَمَّ منه، فقابل الخير.
وهذا من الفصاحةِ عُدُولٌ عن قانون التكليف والصيغة، فإن باب التكليف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مُتءترناً [بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مُضاهاة فمن ذلك] ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ﴾ [طه : ١١٨ - ١١٩] فجاءؤ بالجوع مع العُرْي، وبابه أن يكون مع الظَّمَأ.
ومنه قوله امرئ القيس :[الطويل] ٢١١٩ - كَأنِّيَ أرْكَبْ جَواداً لِلَذَّةِ
وَلَمْ أتَبَطَّنْ كَاعِباً ذَاتَ خَلْخَال
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦١
وَلَمْ أسْبإ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أقُلْ
لِخَيْلِيَ كُرِّي كرَّةً بَعْدَ إجْفَالِ
ولم يوضّح ابن عطيَّة ذلكن وإيضاحه في آية " طه " اشْتَرَاكُ الجوع والعُرْي في شيء خاص وهو الخلُوُّ، فالجوع خُلُوُّ وفراغٌ من الباطن، والعُرْيُ خُلُوِّ وفراغٌ من الظَّاهرِ واشتراك الظَّمَأ والضِّحَي في الاحتراق، فالظَّمَأُ احترافي في الباطن، ولذلك تقول :" بَرَّدَّ الماءُ حَرارةَ كبدي وأوام عطشي ".
والضَّحَى : احْتِرَاقُ الظَّاهر.
وأمَّا البيتان، فالجامعُ بين الرُّكوب لِلذَّةِ وهو الصيد وتبطُّن الكَاعِب اشتراكهما في لَذَّةِ الاسْتِعْلاءِ، والقهر والاقْتِنَاصِ والظّفر بمثل هذا المركوب، ألا ترى إلى تسميتهم هَنَ المرأة " رَكَباً "، بفتح الراء والكاف، وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كقوله :[الرجز] ٢١٢٠ - إنَّ لَهَا لَرَكَباً إرْزَبَّا
كَأنَّهُ جِبْهَةُ ذَرَّي حَبَّا
وأمَّا البيت الثاني فالجامعُ بين سَبَأ الخمر، والرُّجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذْل، فشراءُ الخَمْرِ بَذْلُ المال، والرجوع بعد الانهزام بَذْلُ الروح.
٦٢
وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضُّرِّ الخير لمناسبة اتِّصالِ مسِّ الضُّر بما قبله من التَّرْهيبِ المدلول عليه بقوله تعالى :" إنِّي أخَافُ "، وجاء جواب الشَّرْط الأوَّل بالحَصْر إشارةً إلى اسْتِقلالِهِ بكشف الضُّرُ دون غيره، وجاء الثاني بقوله تعالى ﴿فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُير﴾ إشارةً قدرته الباهرة، فيندرج فيها المَسُّ بخير وغيره، على أنَّه لو قيل : إنَّ جواب الثاني مَحْذُوفٌ لكان وَجْهاً أي : وإن يمسك بخيرٍ فلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، للتصريح بمثله في موضع آخر.
فصل روى ابن عبَّاسٍ - رضي اله عنهما - قال :" أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ ﷺ بَغْلَةٌ أهْدَاهَا لَهُ كِسْرَى، فَرَكِبَهَا بِحَبْلِ مِنْ شَعْرِ، ثُمَّ أرْدَفَنِي خَلْفَهُن ثُمَّ صَارَ بي مَلِيَّاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إليَّ وقال : يا غُلامُ فَقُلتُك لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله فقال احْفَظِ اللَّهَ يَحْفظْكَ، احَفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وإذا سَألْتَ فَأسْألِ اللَّهَ، وإن اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللَّهُ سبحانه لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ولوْ جَهدُوا أنْ يَضُرُّوكَ عَمَّا لَمْ يَكْتُب اللَّهُ عَلَيْكَ ما قَدَرُوا عَلَيْهِن فإن اسْتَطَعْتَ أنْ تَعْمَلَ بالصَّبْرِ مَعَ اليَقيْنِ فافْعَلْ، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فإنَّ في الصَّبْرِ على ما تَكْرَهُ خَيْرَاً كَثِيراً، واعْلَمْ أنَّ النَّصْر مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ مَعَ الكَرْبِ الفَرَجِ، وأنَّ مَعَ العُسْر يسْراً ".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦١
والمرادُ بالقاهر الغالب، وفي " القاهِرِ " زيادَةُ معنى على القدرةِ وهو منع غيره من بلوغ المُرَادِ.
وقيل : المنفرد بالتَّدْبير الذي يجبرُ الخَلْق على مُرَادِه.
قوله :" فوق " فيه أوجه : أظهرها : أنه مَنْصُوبٌ باسم الفاعل قَبْلَهُ، والفوقيَّةُ هنا عبارةٌ عن الاسْتِعْلاءِ والغَلَبَة.
أحدهما : أنه قاهرٌ.
والثاني : أنه فوق عباده بالغَلَبَةِ.
والثالث : أنه بَدَلٌ من الخبر.
والرابع : أنه منصوبٌ على الحال من الضمير في " القاهرة " كأنهُ قيل : وهو القاهرُ
٦٣
مُسْتَعْلِياً أو غالباً، ذكره المهدوي وأبو البقاء.
الخامس : أنها زائدةٌ، والتقديرُ : وهو القَاهِرُ عِبَادَةُ.
ومثله :﴿فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ﴾ [الأنفال : ١٢] وهذا مردود ؛ لأن الأسماء لا تزاد.
ثم قال " وهو الحكيم " أي في أمره، " الخبيرُ " بأعمال عباده.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٣