أن يُقَالَ : إنه كان بَاقِياً في التَّوْرَاةِ والإنجيل، أو كان مَعْدُماً في وَقْتِ طهوره، لأجل أن التَّحْريف قد تَطَرَّقَ إليهما قبل ذلك، والأول باطلٌ ؛ لأنَّ إخْفاءَ مِثْلِ هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب مُمْتَنِعٌ.
والثاني : أيضاً باطل ؛ لأن على هذا التقدير لم يكن يَهُودُ أهل ذلك الزمان، ونصارى ذلك الزَّمان عالمين بنبُوِّة مُحَمِّد ﷺ علهمهم بنبوِّةِ أنبيائهم، وحينئدٍ يَسْقُطُ هذا الكلام.
والجوابُ ان يقالك المراد بـ " الذين آتيناهم الكتاب " اليهود والنَّصارىن وهم كانوا أهْلاً للنَّظَرِ والاستدلال، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصَّلاةُ والسِّلامُ، فعرفوا بوساطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند اللَّهِ تعالى، والمقصود بمعرفتهم هي المعرفةُ من طريق النَّظرِ، والاستدلال من طري النَّقْلِ.
فصل في المراد بالخسران قال المفسرون : معنى هذا الخُسْران أنَّ الله - تبارك وتعالى - جعل لكلِّ آدمي مَنْزِلاً في الجنِّةِ ومَنْزِلاً في النَّار، فإذا كان يوم القيامة جعل اللَّه تبارك وتعالى للمؤمنين مَنَازِلَ أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنَّة في النَّار وذلك هو الخسران.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
لمَّا بَيَّنَ خُسْرَانَ المنكرين في الآية الأولى بَيَّنَ في هذه الآية الكريمة سَبَبَ ذلك الخسران وهو أمران.
أحدهما : الافتراء على اللَّه كذباً، وهذا الافتراءُ يحتمل وجوهاً : أحدهما : أن كُفَّار " مكة " المشرفة كانوا يقولون : هذه الأصنام شركاء الله، اللَّهُ أمرهم بعبادتها، وكانوا يقولون : الملائكة بَنَاتُ اللَّهِ.
وثانيها : أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يقولونك حصل في التَّوْراة والإنجيل أن هاتيْنِ الشريعيتين لا يَتَطَرَّقُ إليهما النَّسْخُ والتغييرُ.
وثالثها : ما حكاه تعالى عنهم بقوله :﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ [الأعراف : ٢٨].
ورابعها : قوله اليهود :﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه﴾ [المائدة : ١٨] وقولهم :﴿لَن تَمَسَّنَا
٧٠
النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾
[البقرة : ٨٠] وقول جُهَّالِهِمْ :﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآء﴾ [آل عمران : ١٨١] ونحوه.
الأمرُ الثاني من أسباب خسارتهم ؛ تكذيبهم بآيات الله تعالى : وقدحُهُمْ في معجزات محمد - عليه الصلاة والسلام - وإنكارهم كون القرآن العظيم معجزةً قاهرةً منه، ثم إنَّه لمَّا حكى عنهم سبب هذين الأمرين قال :﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون﴾، أي : الكافرون - أي لا يَظْفَرُونَ بِمطَالِبهمْ في الدنيا ولا في الآخرة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٧٠
قوله تعالى :﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ فيه خمسة أوجه : أحدهما : أنه منصوبٌ بفعل مُضْمَرٍ بعده، وهو على ظرفيَّتِهِ، أي : يوم نحشرهم كان كيت وكيت، وحُذِف ليكون أبْلَغَ في التَّخْويفِ.
والثاني : أنه معطوفق على ظرفٍ محذُوفٍ، ذلك الظرف معمول لقوله :﴿لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام : ٢١] والتقدير : أنه لا يفلح الظَّالمونَ اليوم في الدنيا، ويوم نحشرهم، قاله محمد ابن جَريرٍ.
الثالث : أنه منصوبٌ بقوله :﴿انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ﴾ [الأنعام : ٢٤] وفيه بُعْدٌ لِبُعْدِهِ من عامله بكثرة الفواصِلِ.
الرابع : أنه مفعولٌ به بـ " اذكر " مقدَّراً.
الخامس : أنه مفعولٌ به أيضاً، ونَاصِبُهُ : احذروا أو اتَّقُوا يوم نحشرهم، كقوله :﴿وَاخْشَوْاْ يَوْماً﴾ [لقمان : ٣٣] وهو كالذي قبله فلا يُعَدُّ خامساً.
وقرأ الجمهور " نَحْشرهم " بنون العظمة، وكذا " ثم نقول "، وقرآ حميد، ويعقوب بياء الغَيْبَةِ فيهما، وهو أنه تبارك وتعالى.
والجمهورعلى ضم الشين من " نَحْشُرهم "، وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المُضَارع.
والضمير المنصوب في " نحشرهم " يعود على المفترين الكَذِبَ.
٧١


الصفحة التالية
Icon