الثاني : أن الإنسان الذي عَلِمَ الله - تعالى - منه أنه لا يؤمن، وأنه يموت على الكُفْرِ، فإنه - تبارك وتعالى - يَسِمُ قَلبهُ بعلامة مَخْصُوصَةٍ يستدلُ الملائكة برؤيتها على أنهم لا يُؤمِنُونَ، فلا يَبْعُدُ تلك العلامةِ بالكَنَانِ والغَطاءِ المانع، وتلك العلامَةُ في نفسها ليست مَانِعَةً عن الإيمان.
الثالث : أنَّهم لمَّا أصًرُّوا على الكُفْرِ، وصَمَّمُوا عليه صار عدولهم عن الإيمان، والحالة هذه كالكِنَانِ المانِعِ عن الإيمان، فذكر الله تبارك وتعالى الكَنَانَ كِنَايَةٌ عن هذا المعنى.
الرابع : إنه تعالى لما منعهم الألطاف التي يفعل بمَنْ اهتدى، فأخْلاهُمْ منها، وفوَّضَ أمورهم إلى أنفسهم لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ، لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله :﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾.
الخامس : أن يكون الكلامُ وَرَدَ حِكَاية لما كانوا يذكرونه من قولهم :" قلوبنا غُلْفٌ "، وقالوا :﴿قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت : ٥].
فالجواب : أن العَبْدَ الذي أتى بالكُفْرِ إن لم يقدِرْ على الإتيان بالإيمان فقد صَحَّ قولنا : بأنه تبارك وتعالى - هو الذي حمله على الكُفْرِ [وصَدَّهُ عن الإيمان، وإن كان القادر على الكُفْر قَادراً على الإيمان فيمتنع صيرورة تلك القدجرة مَصْدراً للكُفْرِ] دون الإيمان إلاَّ عند انْضْمَام تلك الدَّاعية، وقد تقدَّم أنَّ مجموع القُدْرَةِ مع الدَّاعي يوجب الفِعْل، فيكون الكُفْرُ علَى هذا التقدير من اللَّهِ تعالى، وتكون الدَّاعية الجارة إلى الكُفر كِنَاناً للقلب عن الإيمان، ووقراً للسَّمع عن اسْتِمَاع دَلائِلَ الإيمان، فإذا ثبت في الدَّليلِ العَقْليِّ صِحَّةُ ما دَلَّ عليه ظَاهِرُ الآية الكريمة وجب حَمْلُهَا عليه عَمَلاً بالبرهان، وظاهر القرآن.
قوله :﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة﴾ أي من المُعْجِزَاتِ والدَّلالاتِ ﴿لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ تأويل الجُبَّائي ؛ لأنه لو كان المراد بالأكِنَّةِ إلْقاء النوم على قلوب الكُفَّار لئلا يمكنهم التَّوصُّل بسمامع صوْتِهِ إلى وجدان مكانه، لما كان قوله :﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ لائقاً بذلك الكلام، ولوجب أن يُقالَ : وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً أنْ يسمعوه ؛ لأن المقصود الذي ذكره الجُبَّائي إنما يَحْصُلُ بالمَنْعِ من سماع الصَّوتِ، أمَّا المَنْعُ من الفِقْهِ لكلامه فلا تعل‍ُقَ له بما ذكره الجبائي.
قوله :" حَتَّى إذَا جَاءُوكَ " قد تقدَّم الكلامُ في " حتَّى " الداخلة على " إذا " في أول " النساء ".
٨٢
وقال : أبو البقاء - رحمه الله تعالى - : هنا " إذا " في موضع نَصْبٍ بجوابها، وهو " يقول " وليس لـ " حتَّى " غايةٌ و " يجادلونك " حال، و " يقول " جواب " إذا "، وهو العامل في " إذا ".
وقال الزمخشري :[وهي] " حتى " التي تقع بعدها الجُمَلُ، والجملة قوله :" إذا جَاءُكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ "، و " يُجَادِلُونَكَ " في موضع الحَالِ، ويجوزُ أن تكون الجارةَ، فيكون " إذا جاءوك " في مَحَلِّ الجر، بمعنى " حتَّى " وقت مجيئهم، و " يجادلونك " حالٌ، .
وقوله :﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تفسيرٌ له، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويُنَاكِرُونَكَ.
وفسَّرَ مُجَادَلَتَهُمْ بأنهم يقولون :﴿إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين﴾ قال أبو حيَّان :" وقد وُفَّقَ الحوفي، وأبو البقاء، وغيرهما للصواب في ذلك " ثمَّ ذكر عِبَارَةَ أبي البقاء والحوفي، وقال أيضاً : و " حتى " إذا وقع بعدهما " إذا "، يُحْتمل أن تكون بمعنى " الفاء "، ويحتمل أن تكون بمعنى " إلى أن "، فيكون التقديرُ : فإذا جَاءُوك يُجَادِلُونَكَ يقول، أو يكون التقدير : وجعلنا على قلوبهم أكنَّة، وكذا إلى أن قالوا : إن هذا إلاَّ أساطير الأوَّلين، وقد تقدَّم أن " يُجَادِلُونك " حالٌ من فاعل " جَاءُوكَ "، و " يقول " : إمَّا جواب :" إذا " وإمَّا مفسَّرةٌ للمجيء، كما تقدَّم تقريره.
و " أساطير " فيه أقوال : أحدهما : أنه جمع لواحد مُقَدَّرٍ، واخْتُلِفَ في ذلك المُقَدَّرٍ، فقيل : أسْطُورة، وقيل : أسْطَارة، وقيل أسْطُور، وقيل : أسْطَار، وقيل إسْطِيرة وقال بعضهم : بل لُفِظَ بهذه المفردات.
والثاني : أنه جَمْعٍ فـ " أساطير " جمع " أسْطار "، و " أسطار " جمع " سَطَر " بفتح الطاء، وأمَّا " سَطْر " بسكونها فَجَمْعُهُ في القِلَّةِ على " أسْطُر "، وفي الكثرة على " سطور " كـ " فَلْس " و " أفْلُس " و " فُلُوس ".
والثالث : أنه جَمْعُ الجَمْعِ فـ " أساطير " جمع " أسْطَار "، و " أسطار " جمع " أسْطُر "، و " سَطْر " جمع " سَطر " وهذا مرويُّ عن الزَّجَّاج، وليس بشيء فإنَّ " أسْطَار " ليس جمع " أسْطر "، بل هما مِثَالاً جَمْع قلَّة.
الرابع : أنه اسم جمع.
٨٣


الصفحة التالية
Icon