هذا الأهوال كيف [يمكن] أن يقال : إنهم يَعُودُونَ إلى الكُفْرش والمعصية.
فالجواب : قال القاضي : تقديره : ولو رُدُّوا إلى حَالةِ التكليف، وإنَّما يَحْصُلُ الردُّ [إلى] هذه الحالة، إذا لم يحصل في القيامةِ مَعْرِفَةُ ا االلِّهِ بالضرورة، ولم يحصل هناك مُشَاهَدَةُ الأهوال وعذابُ جَهَنَّم، فهذا الشرط يكون مضمراً لا مَحَالَة.
وهذا الجوابُ ضعيفٌ، لأن المقصود من الآية الكريمة بَيَانُ غُلُوهِمْ في الإصرار على الكُفْرِ، وعدم رغبتهم في الإيمان، فلو قَدَّرْنَا عدمَ معرفة الله في القيامة وعدمَ مشاهدة الأهوال لم يكون إصْرَارُهُمْ على كفرهم الأول مزيد تَعجُّبٍ، وإذاً لم يكن اعتبار هذا الشَّرطِ الذي ذكره القاضي.
وقال الواحدي - رحمه الله تعالى - : هذه الآية الكريمة من أظْهَرِ الدلائل على فساد قول المُعتزلةِ ؛ لأن الله تبارك وتعالى - بيَّن أنهم لو شاهدوا النَّار والعذابَ، ثم سألوا الرَّجْعَةَ ورُدُّوا إلى الدنيا لَعَادُوا إلى الشرك، وذلك للقضاء السَّابق فيهم، وإلاَّ فالعَاقِلُ لا يَرْتَابُ فيما شاهد.
قال القرطبي : وقد عَايَنَ إبليس ما عاينَ من آيات الله تبارك وتعالى ثم عَانَدَ.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٩
قوله :﴿وَقَالُوا ااْ﴾ هل هذه الجملة مَعْطُوفة على جواب " لو " والتقدير ولو رُدُّوا لعادوا [ولقالوا]، أو هي مُسْتأنَفَةٌ ليس دَاخِلَةٌ في خبر، أو هي معطوفة على قوله :﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون﴾ [الأنعام : ٢٨]ثلاثة أوجه : ذكر الزمخشري الوجهين الأوَّل والأخير، فإنه قال :" وقالوا " عطف على " لعادوا "، أي لو رُدُّوا لكفروا، ولقالوا : إن هي إلاَّ حياتنا الدنيا، كما كانوا يقولون قبل مُعايَنةِ القيامة، ويجوز أن يُعْطَفَ على قوله :" وإنهم لكاذبون " [على معنى : وإنهم لَقَوْمٌ كاذبون] في كل شيء.
والوجه الأول منقول عن ابن زيد، إلاَّ أن ابن عَطِيَّة ردَّهُ فقال : وتوقِيفُ الله - تعالى - لهم في الآية بَعدها فيه دلالةٌ على البَعْثِ والإشارة إليه بقوله :" أليس هذا بالحقِّ " يردُّ على هذا التأويل، وقد يُجَابُ عن هذا باختلاف حالين : فإنَّ إقرارهم بالبعث حقيقة، إنما هو في الآخرة، وإنكارهم ذلك إنما هو في الدنيا بتقدير عَوْدهمْ إلى الدنيا، فاعرافهم به في الدار الأخرة غَيْرُ مُنَافٍ لإنكارهم إيَّاهُ في الدينا.
٩٨
قوله :﴿إنْ هيَ إلا حَيَاتُنَا﴾ " إن " نافية، و " هي " مبتدأ و " حَيَاتُنَا " خبرها، ولم يكتفوا بمجرد الإخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفي وإثباتٍ، و " هي " ضمير مُبْهَمٌ يفسِّره خبره، أي : ولا نعلم ما يُرَادُ به إلاَّ بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة وقد تقدم ذلك عند قوله :﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [البقرة : ٢٩] وكون هذا مما يفسره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظر، إذ لقائل أن يقول :" هي " تعود على شيء دلَّ على سياقِ الكلام، كأنهم قالوا : إنَّ العادة المستمرة، أو إن حَالَتَنَا وما عَهِدْنَا إلاِّ حياتنا الدنيا، واستند هذا القائل إلى قول الزَّمخشري :" هذا ضميرٌ لا يُعْلمَمُ ما يُرَادُ به إلاَّ بذكر ما بعده ".
ومثَّل الزمخشري بقول العرب " هِيَ النَّفْسُ تَتَحَمَّلُ ما حُمَّلَتْ " و " هي العرب تقول ما شاءت ".
وليس فيما قاله الزمخشري دَلِيلٌ على أن الخبر مُفَسِّرٌ للضمير.
ويجوز أن يكون المعنى : إن الحَيَاة إلا حياتنا الدُّنْيَا، فقوله " إلا حياتنا الدنيا " دالٌّ على ما يُفَسِّرُ الضمير، وهو الحَيَاةُ مُطْلقاً، فصدق عليه أنه لا يعلم ما يُرَادُ ما يعود عليه الضمير إلاَّ بذكر ما بعده من هذه الحَيْثِيَة لا من حيثيَّة التفسير، ويَدُلُّ على ما قلنا قول أبي البقاء - رحمه الله تعالى - : هي كِنَايَةٌ عن الحياة، ويجوز أن يكون ضمير القِصَّة.
قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : أمَّا أوَّل كلامه فصحيح، وأمَّا آخره وهو قوله :" إن هي ضمير القصّة " فليس بشيء ؛ لأن ضمير القصِّة لا يفسَّرُ إلاَّ بجملةٍ مُصَرَّحٍِ بجزْأيْهَا.
فإن قيل : الكوفي يجوزُ تفسيره بالمفرد، فيكون نَحَا نَحْوهُمْ ؟ فالجواب أنَّ الكوفيَّ إنما يُجَوِّزهُ بمفرد عامل عمل الفعل، نحو :" إنه قائم زيد " و " ظَنَنْتُهُ قائماً زيدٌ " لأنه في صورة الجملة إذ في الكلام مُسْنَدٌ ومُسْنَدٌ إليه.
أما نحو " هو زيد " فلا يجيزه أحدٌ، على أن يكون " هو " ضمير شأن لا قصّة، والدنيا صفة الحياة، وليست صِفَةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً، يعني : أن ثَمَّ حياةً غير دنيا يُقرُّون بها ؛ لأنها لا يعرفون إلاَّ هذه، فيه صَفَةٌ لمجرد التوكيد، كذا قيل، ويعنون بذلك أنها لا مَفْهُومَ لها، وإلاَّ قحقيقةُ التوكيد غَيْرُ ظاهرةٍ بخلاف ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الحاقة : ١٣].
و " الباء " في قوله :" بمبعوثين " زائدةٌ لتأكيد الخبر المفني، ويحتمل مجرورها أن يكون مَنْصُوبَ المَحَلِّ على أنَّ " ما " هاهنا حجازيةٌ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية.
٩٩