وقد انْتَصَرَ أبو بكر بن الأنْبَاريّ لمذهب القرَّاء بأن قال :" لو كانت " الكافُ " توكيداً لوقَعت التَّثْنِيَةُ والجمع بالتاء، كما يَقَعَانَ بها عند عدم " الكاف "، فلمَّا فُتِحت " التاءُ " في خِطَابِ الجَمْعِ ووقع مِيْسَمُ الجمع لغيرها كان ذلك دَلِيلاً على أن " الكاف " غيرُ توكيد.
ألا ترى أن " الكاف " لو سَقَطَتْ لم يَصلُحْ أن يُقالَ لجماعة : أرأيت، فوضحَ بهذا انْصِرافُ الفِعْلِ إلى " الكاف "، وأنها واجبةٌ لازَمَةٌ مُفْتَقَرٌ إليها ".
وهذا الذي قاله أبُو بَكْرٍ بَاطِلٌ بالكاف اللاحِقَةِ لاسم الإشارة، فإنها يَقَعُ عليها مِيْسَمُ الجَمْعِ، ومع ذلك هي حرفٌ.
وقال الفراء :" موضعُ " الكاف " نصب، وتأويلها رَفْعٌ ؛ لأن الفعل يِتَحَوَّلُ عن " التاء " إليها، وهي بِمَنْزِلِةِ " الكاف " في " دونك " إذا أغْريَ بها، كما تقول :" دُونَكَ زيداً " فتجد " الكاف " في اللَّفْظِ خَفْضاً، وفي المعنى رفعاً ؛ لأنها مَأمُورةٌ، فكذلك هذه " الكافُ " موضعُها نصبٌ، وتأويلها رفع ".
قال شهابُ الدين :" وهذه الشُّبْهَةُ بَاطِلةٌ لما تقدَّم، والخلافُ في " دونك " و " إليك " وبابهما مَشْهُورٌ تقدَّم التَّنْبِيهُ عليه مراراً ".
وقال الفرَّاءُ أيضاً كلاماً حَسَناً [رأيت أن أذكره فإنه مُبِينٌ نَافِعٌ] قال : للعرب في " أرأيت " لغتان ومعنيان : أحدهما : رؤية العَيْنِ، فإذا رأيت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المُخَاطَبِ، ويتصرَّفُ سِائِرِ الأفعال، تقول للرجل :" أرأيتك على غير هذه الحالِ "، تريدُ : هل رأيت نفسك، ثم تُثَنِّي وتَجْمَعُ فتقول :" أرَأيْتُمَاكُمَا، أرَأيْتُمُوكُمْ، أرَأيْتُكُنَّ ".
والمعنى الآخر : أن تقول :" أرأيتك " وأنت تريد معنى " أخبرني "، كقولك : أرأيتك إنْ فَعَلْتُ كذا ماذا تَفْعَلُ، أي : أخبرني، وتترك " التاء " إذا أردت هذا المعنى مُوَحَّدةً ؛ لأنهم كل حالٍ تقول :" أرأيتكما، أرأيتكم، أرأيتكنَّ "، وإنما تركتِ العربُ " التاء " واحدةً ؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفِعْلُ واقعاً من المُخَاطَبِ على نفسه، فاكْتَفَوْا من علامةِ المُخاطبِ بذكره في المكان، وتركوا " التاء " على التذكير والتوحيد إذا لم يكون الفَعْلُ واقعاً، والرُّؤيَةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المُخَاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل : ظنتني ورأيتني، ولا يقولولن ذلك في الأفْعَالِ التَّامةِ، لا يقولون خارجاً ؟ وذلك أنَّهم أرَادُوا الفَصْلَ بين الفعلِ الذي قد يُلْغَى، وبين الفعل الذي لا يَجُوزُ إلْغَاؤهُ، ألا ترى أنك تقول :" أنا أضُنُّ خَارجٌ " فتلغي " أظن " وقال الله تعالى ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق : ٧] ولم يَقُل : رأى نَفْسَهُ.
١٣٨
وقد جاء في ضرورة الشعر إجْرَاءُ الأفعال التامة مُجْرَى النواقص ؛ قال جِرَانُ العَوْدِ :[الطويل] ٢١٦٦ - لَقَدْ كَانَ لِي عَنْ ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُنِي
وَعَمَّا ألاَقِي مِنْهُمَا مُتَزَحْزحُ
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٣٣


الصفحة التالية
Icon