قوله :" ولا تطرد "، وتكون الجملاتن، وجوابُ الأول اعْتِرَاضاً بين النَّهْي وجوابه، فحعلهما اعراضاً مُطْلَقاً من غير نَظَرٍ إلى الضميرين، ويعني بالجملتين " ما عليك من حِسَابِهِمْ من شيء " و " من حسابك عليم من شيء " وبجواب الأول قوله :" فتطردهم ".
قوله :" فتطردهم " فيه وجهان : أحدهما : مَنْصُوبٌ على جواب [النفي] بأحد معنيين فقط، وهو انْتِفَاءُ الطَّرْدِ لانْتِفَاءِ كون حسابهم عليه وحسابه عليهم ؛ لأنه يَنْتَفِي المُسَبَّبُ بانفاء سَببِهِ، ولنوضح ذلك في مثال وهو :" ما تَأتِينَا فَنُحَدَّثَنَا " بنصب " فتحدِّثنا " وهو يحتمل معنيين : أحدهما : انتفاء الإتْيَان، وانتفاء الحديث، كأنه قيل [ما يكون منك إتيان، فكيف يقعُ منك حديث ؟ وهذا المعنى هو المقصود بالآية الكريمة، أي : ما يكون مُؤاخذة كل واحد بحساب صاحبه، فكيف يقع طرد ؟ والمعنى الثاني : انفاء الحديث، وثبوت الإتيان].
كأنه قيل : ما تأتينا مُحَدَّثاً، بل تأتينا غير مُحَدَّثٍ، وهذا المعنى لا يليق الآية الكريمة، والعُلماءُ - رحمهم اله - وإن أطلقوا قولهم : إن منصوبٌ على جواب النفي، فإنَّما يريدون المعنى الأول دون الثاني، والثَّاني أن يكون منصوباً على جواب النهي قوله :" فتكون " ففي نصبه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب عَطْفاً على " فتطردهم "، والمعنى : الإخْبارُ انْتِفَاءِ حسابهم، والطَّرْد والظلم المُسَبَّب عن الطرد.
قال الزمخشري : ويجوز أن تكون عَطْفاً على " فتطردهم " على وجه السبب ؛ لأن كونه ظالِماً مُسَبَّبٌ عن طَرْدِهِمْ.
والثاني من وَجْهَي النصب : أنه منصوبٌ على جواب النهي في قوله :" ولا تطرد ".
ولم يذكر مكي، ولا الواحدي، ولا أبو البقاء غيره.
قال أبو حيَّان :" أن يكون " فتكون " جواباً للنيه في قوله :" ولا تطرد " كقوله :﴿لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾ [طه : ٦١]، وتكون الجملتان وجوابُ الأو‍َّل اعتراضاَ بين النهي وجوابه ".
قال شهاب الدين : قد تقدَّم أن كونهما اعْتِرَاضاً لا يتوقَّفُ على عَوْدِ الضمير في قوله :" مِنْ حِسَابِهِمْ " و " عليْهِمْ " على المشركين كما هو المفهوم من قوله ها هنا، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حكيما عَنْهُ يُشْعِرُ بذلك.
١٦٨
فصل في شبهة للكفار ذكروا في قوله :" ما عَلَيْكَ من حِسَابِهِمْ من شيء " قولين : الأول : أن الكُفَّار طعنُوا في إيمان أولئك الفُقَرَاء، وقالوا : يا محمد إنهم [إنما] اجتمعوا عندك، وقبلوا دينك ؛ لأنهم يجدون بهذا الأمْرُ على ما يقول هؤلاء، فما يلزمك إلاَّ اعْتِبارُ الظَّ‍اهر، وإن كان بَاطِنُهَمْ غير مُرْضٍِ عند اللَّهِ، فحسابهم عليه لا زمٌ لهم لا يتعد‍َّى إليك، كما أنَّ حسابك عليك لا يتعدّى إليهم، كقوله :﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام : ١٦٤].
الثاني : المعنى : ما عليك من حِسابِ رِزْقِهِمْ من شيء فتملّهم وتطردهم، فتكون من الظالمين لهم لأنهم لمَّا اسْتَوْجَبُوا مزيد التقريب كان طَرْدُهُمْ طُلْماً لهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٦٠
" الكاف " في مَحَلِّ نَصبٍ على أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف، والتقدير : ومثل
١٦٩
ذلك الفُتُون المتقدم الذي فُهِمَ من سياق أخبار الأمم الماضية فتنَّا بعضَ هذه الأمَّةِ ببعْض، فالإشَارَةُ بذلك إلى الفُتُونِ المَدْلُولِ عليه بقوله :" فَتَنَّا "، ولذلك قال الزمخشري : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناسِ ببعضٍ فجعل الإشارة لِمصدَرِ فَتَنَّا.
وانظر كيف لم يَتَلَّفَظْ هو بإسناد الفِتْنَةِ إلى اللَّهِ - تعالى - في كلامِهِ، وإن ان البارئ - تعالى قد أسْنَدَها، بل قال : فتن بعض الناس فَبَناهُ للمفعُول على قَاعِدةِ المعتزلة.
وجعل ابن عطية الإشارة إلى طلب الطَّرْدِ، فإن قال بعد كلام يتعلٌّق بالتفسير :" والإشارة بذلك إلى ما ذُكِرَ من طلبهِمْ أن يطرد الضَّعفَةَ ".
قال أبُو حيَّان : ولا ينتظم هذا التَّشْبيه ؛ إذ يصير التقدير : مثل طلب الطرد فَتَنَّا بعضهم ببعض والمَتَبَادَرُ إلى الذَّهْنِ من قولك :" ضربتُ مثل ذلك " المُمَاثَلَةُ في الضرب، أي : مثل ذلك الضرب لا أن تَقَعَ المُمَاثَلَةُ في غير الضَّربِ، وقد تقدَّم مِرَاراً أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضير المَصْدَرِ المقدر.
قوله :" لِيَقُولُوا " في هذه " اللام " وجهان : أظهرهما :- وعليه أكثر المعربين والمُفسِّرين - أنها لام " كي "، والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابْتِلاءً مَنَّا وامْتِحَاناً.
والثاني : أنها " لام " الصَّيْرُورَةِ أي : العاقبة كقوله :[الوافر] ٢١٨١ - لِدثوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ
................


الصفحة التالية
Icon