﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر : ٤] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة " الواو " فَبِأنْ يجيزوا ذلك هنا أوْلَى.
وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جرِّ على اللفظ، أو رفع على المَحَلّ، [والمعنى : يريد ساقط أو نَائِيَة أي : يعلم عدد ما يسقط من ورقِ الشجر، وما يبقى عليه.
وقيل : يعلم كم انقلبت ظَهراً لبطنٍ إلى أن سقطتْ على الأرض].
قوله :" ولا حَبَّةٍ " عطف على لفط " وَرقة "، ولو قرئ بالرفع لَكانَ على الموضع والمراد : الحب المعروف في بطُونِ الأرض.
وقيل : تحت الصَّخْرَةِ في أسفل الأرضين و " في ظلمات " صِفَةٌ لـ " حَبّة ".
قوله :﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس﴾ مَعْطُوفانِ أيضاً على لَفْظ " ورقة "، وقرأهما ابن السَّمَيْفَعِ، والحسن، وابن أبي إسْحَاق بالرفع على المَحَلِّ، وهذا هو الظاهر ويجوز أن يكونا مبتدأين، والخبر قوله :" إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ ".
ونقل الزمخشري أن الرَّفْعَ في الثلاثة أعني قوله " ولا حبَّةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ " وذكر وَجْهَيِ الرفع المتقدمين، ونظر الوجه الثاني بقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.
قال ابن عبَّاس : المراد بـ " الرطب " الماء، و " اليابس " البادية.
وقال عطاء : يريد ما نَبَتَ وما لا يَنْبُتُ.
وقيل : ولا حَيّ ولا مَوَات.
وقيل : هو عبارة عن كل شيء.
قوله :" إلاَّ فِي كتابِ مُبين " في هذه الاسْتِثْنَاءِ غُمُوضٌ، فقال الزمخشري : وقوله " إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ " كالتكرار لقوله :" إلاَّ يَعْلَمُهَا " لأن معنى " إلاَّ يَعْلَمُهَا " ومعنى " إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ " واحد.
و " الكتاب " علم الله، أو اللَّوْحُ، وأبرزه أبو حيَّان في عبارة قريبة من هذه فقال :" وهذا الاسْتِثْنَاءُ جارٍ مُجْرى التوكيد، لأن قوله " ولا حبَّةٍ " " ولا رطب " " ولا يابس " معطوف على " مِنْ ورقَةٍ "، والاسْتِثْنَاءُ الأول مُنْسَحِبٌ عليها، كما تقول : ما جاءني من رجل إلا أكرمته، ولا امرأة، فالمعنى إلاَّ أكرمتها، ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيلِ التوكيد، وحسَّنه كونه فاصلة " انتهى.
١٨٩
وجعل صاحب " النظم " الكلام تامَّا عند قوله :" وَلاَيَابِس "، ثم اسْتَأنَفَ خبراً آخر بقوله :" إلاَّ في كتابٍ مُبين " بمعنى : وهو في كتاب مُبين أيضاً، قال : لأنك لو جعلت قوله : إلاَّ فِي كتابٍ مُبينٍ " مُتصلاً بالكلام الأوَّلِ لفسد المعنى، وبيان فساده في فَصْلٍ طويل مذكور في سورة " يونس " في قوله :﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا اا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [يونس : ٦١].
قال شهابُ الدِّين : إنما كان فاسد المعنى من حيث اعقد أنه اسْتِثْنَاءٌ آخر مستقل، وسيأتي كيف فَسَادُهُ.
أمَّا لو [جعله] اسْتِثْنَاءً مؤكّداً للأول، كما قاله الزمخشري لم يَفْسُدِ المعنى.
وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى :" ولا يَابِسٍ " ويبتدأ بـ " إلاَّ "، وكيف تقع " إلاَّ " هكذا ؟ وقد نَحَا أبو البقاء لشيء مما قاله الجُرْجَانِيُّ، فقال :" إلاَّ فِي كتابٍ مبين " أي : إلاَّ هو في كتابٍ مُبين، ولا يجوز أن يكون اسْتِثْنَاء يعمل فيه " يعلمها " ؛ لأن المعنى يصير : ومَا تَسْقُطُ لم يكُنْ إلاَّ في كتاب، وجب أن يعلمها في الكتاب، فإذن يكون الاسْتِثْنَاءُ الثاني بدلاً من الأوَّلِ، أي :" وما تَسْقُطُ من ورقةٍ إلاَّ هي في كتاب، وما يعلمها إلاَّ هُوَ " انتهى.
وجَوَوابُهُ ما تقدَّم من جَعْلِ اللاستثناء تأكيداً، وسيأتي تقريه إن شاء الله - تعلى - في سورة " يونس ".
فصل في المراد بالكتاب في الكتاب المُبينِ قَوْلان : الأول : هو عِلْمُ الله - تعالى وهو الأصْوَبُ.
وقال الزَّجَّاج : يجوز أن يكون الله - تعالى - أثْبَتَ كَيْفِيَّةَ المعلومات في كتاب من قبل أن يَخْلُقَ الخَلْقِ، كما قال :﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ﴾ [الحديد : ٢٢].
وقائدة هذا الكتاب أمور : أحدها : أنه - تعالى - إنما كتب هذه الأحْوَالَ في اللَّوْحِ المحفوظ لِتَقفِ الملائِكَةُ على إنْفَاذِ عِلْم اللَّهِ في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء، فيكون في ذلك عِبْرَة تامة كاملة للملائكة الموكَّلين باللَّوحِ المحفوظ ؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث في هذا العالم فيجدونه مُوَافقاً له.
١٩٠