" اتَّخّذُوا " فيها وجهان : أحدهما : أنها مُتَعَدِّيَةٌ لواحد، على أنها بمعنى " اكتسبوا " و " عملوا "، و " لهواً ولعلباً " على هذا مفعول من أجله ؛ أي : اكتسبوه لأجل اللهو واللعب.
قال أبو حيَّان : ويظهر من بعض كلام الزمخشري، وكلام ابن عطية أنَّ " لعباً ولهواً " هوا لمفعول الأوَّل، و " دينهم " هو المفعول الثاني.
قال الزمخشري : أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لَعِباً ولهواً، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تَبْحِير البَحَائِرِ وتسييب والسَّوائبِ من باب اللَّهْوِ واللعبن واتِّباعِ هوى النفسن وما هو من جِنْسِ الهَزْلِ لا الحِدِّ، أو اتخذوا ما هولَعِبٌ ولهو من بعادة الأصنام دِيناً لهم، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفُوُ، وهو دين الإسلام لعباً ولهواً، فتفسيره الأوَّلُ هو ما ذكرناه عنه ".
انتهى قال شهاب الدين : وهذا الذي ذَكَرَاهُ إنما ذَكَرَاهُ تفسير معنى لا تفسير إعراب، وكيف يجعلان النكرة مَفْعُولاً أوَّل، والمعرفة مفعولاً ثانياً نم غير داعية إلى ذلك، مع أنهما من أكابر أهْلِ هذا اللسان، وانظر كيف أبرزا ما جَعَلاَهُ مفعولاً أول معرفة، وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامها[يخرج] على كلام العرب، فكيف يظن بهما أن يجعلا النكرة محدثاً عنها، والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى ؟ قوله تعالى : و ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ تحتمل وجهين : أحدهما : أنها مستأنفة.
والثاني : أنها عطف على صلة " الَّذين "، أي : الذين اتَّخّذُوا وغرَّتْهُم، وقد تقدم معنى " الغُرُور " في آخر آل عمران.
٢١١
وقيل : هنا : غَرَّتْهُمْ من " الغَرّ " بفتح الغين، أي : ملأت أفواههم وأشبعتهم، وعليه قول الشاعر :[الطويل] ٢١٩٩ - وَلَمَّا الْتَقَيْنَا بِالحُلَيْبَةِ غَرَّنِي
بِمَعْرُوفِهِ حَتَّى خَرَجْتُ أفُوقُ
فصل في معنى الآية المُرَادُ من هولاء الذي اتخذوا دينهُمْ لعباً ولهواً، يعني الكفار الذين إذا سَمِعُوا آيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا.
وقيل : إن الله - تعالى - جعل لك قوم عِيداً واتَّخَذَ كل قوم دينهم ؛ أي عيدهم لعباً ولهواً، وعيد المسلمين الصلاة والتكبير، وفعل الخير مثل الجُمُعَةِ والفِطْرِ والنَّحْر.
وقيل : إن الكُفَّارَ كانوا يحكمون في دين الله بمجرَّدِ [التشهِّي والتمني مثل تحريم] السَّوائبِ والبَحَائِرِ.
وقيل : اتخاذهم الأصنام وغيرها ديناً لهم.
وقيل : هم الذين ينصرون الدين ليتوسَّلُوا به إلى أخْذِ المناصِبِ والرِّيَاسَةِ، وغلبة الخَصْمِ، وجمع الأموال، فهولاء الذين [نصروا الدِّين] لأجل الدنيا، وقد حكما لله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لَعِبٌ ولَهْوٌ.
ويْكِّدُ هذا الوَجْهَ قوله تعالى :﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾.
قوله :" وذكِّر بِهِ " أي : بالقرآن، يَدُلُّ له قوله :﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق : ٤٥] وقيل : يعود على " حِسَابِهِمْ ".
وقيل : على " الدّين " أي : الذي يجب عليهم أن يَتَداينُوا، ويعتقدوا بصحته.
وقيل : هذا ضمير يفسره ما بعده، وسيأتي إيضاحه.
قوله :" أنْ تُبْسَلَ " في هذا وجهان : المشهور - بل الإجماع - على أنه مفعول من أجْلِهِ، وتقديره : مَخَافَة أن تُبْسَلَ، أو كاراهة أن تُبْسَلَ أو ألاَّ تبسل.
والثاني : قال أبو حيَّان بعد أن نقل الاتِّفاقَ على المفعول من أجله :" ويجوز عندي أن يكون في موضع جرِّ على البدلِ من الضمير، والضمير مفسّر بالبَدَلِ، ويضمر الإبْسَالُ لما في الإضمار من التَّفْخيمِ، كما أضمروا ضمير الأمْرِ والشَّأنِ، والتقدير : وذكِّرْ
٢١٢
بارتهان النفوسن وحبسها بما كسبت، كما قالوا :" اللهم صَلِّ عليه الرءوف الرحيم "، وقد أجاز ذلك سيبويه ؛ قال : فإن قلت : وضربوني قومك، نَصَبْتَ إلا في قول من قال :" أكلوني البراغيث " أو تحمله على البَدَل من المضمر.
وقال أيضاً : فإن قلت :" ضربين وضربتهم قومك، رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدلن كما جعلته في الرفع ".
انتهى.
وقد روي قوله :[الطويل] ٢٢٠٠ -............
........
فاسْتَاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِل
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١١
بجر " عُود " على البدل من الضمير.
قال شهاب الدين : أما تفسير الضمير غير المرفوع بالبدل، فهو قول الأخفش، وأنشد عليه هذا العَجُزَ وأوله :[الطويل] ٢٢٠١ - إذَا هِيَ لَمْ تَسْتَك بِعُودِ أرَاكَةٍ
تُنُخِّلَ فَاسْتاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِلِ
والبيت لطُفَيْلٍ الغَنَوِيّ، يروى برفع " عُود "، وهذا هو المشهور عند النُّحَاةِ، ورفعه على إعمال الأول، وهو " تُنُخِّلَ "، وإهمال الثاني وهو " فَاسْتَاكَتْ "، فأعطاه ضميره، ولو أعمله لقال :" فاستاكت بعود إسحل "، ولا يكن لانكسار البيت، والرواية الأخرى التي استشهد بها ضعيفة جداً لا يعرفها أكثر المُعْرِبينَ، ولو استشهد بما لا خلاف عليه فيه كقوله :[الطويل] ٢٢٠٢ - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي القَوْمِ حَاتِماً


الصفحة التالية
Icon