سوراً كذب بها المشركون، ثم أنزل سورة " البقرة " فقال :" ذلك الكتاب " يعني ما تقدّم " البقرة " من السّور لا شك فيه.
قال ابن الخَطِيب رحمه الله تعالى : سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر، لكن لا نسلّم أن لفظة " ذلك " لا يشار بها إلا إلى البعيد.
بيانه : أن " ذلك " و " هذا " حرف إشارة، وأصلهما " ذا " لأنه حرف الإشارة، قال تعالى :﴿مَّن ذَا الَّذِي﴾ لبقرة : ٢٤٥].
ومعنى " ها " تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل : هذا، أي : تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه، فإنه حاضر معك بحيث تَرَاه، وقد تدخل " الكاف " على " ذَا " للمخاطبة، و " اللام " لتأكيد معنى الإشارة، فقيل :" ذلك "، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه، فهذا يدلّ على أن لفظة " ذلك " لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع، بل اختص في العُرْف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض.
وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي، لا على مقتضى الوضع العرفي، وحينئذ لا يفيد البُعْد، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر.
قال تعالى :﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ [ص : ٤٥]، إلى قوله :﴿وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ﴾ [ص : ٤٨] ثم قال :﴿هَاذَا ذِكْرٌ﴾ [ص : ٤٩] وقال :﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هذا مَا تُوعَدُونَ﴾ [ص : ٥٢ - ٥٣].
وقال :﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق : ١٩].
وقال تعالى :﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾ [النازعات : ٢٤ - ٢٥].
وقال تعالى :﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾ [الأنبياء : ١٠٥] وقال تعالى :﴿إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً﴾ [الأنبياء : ١٠٦].
وقال :﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ [البقرة : ٧٣] [أي هكذا يحيي الموتى].
وقال :﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسَى ﴾ [طه : ١٨] أي ما هذه التي بيمينك.
٢٦٢
و " الكتاب " في الأصل مصدر ؛ قال تعالى :﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء : ٢٤] وقد يراد به المكتوب، قال الشاعر :[الطويل] ١٠٢ - بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً
أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٥١
ومثله [الوافر] ١٠٣ - تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ
كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ
وأصل هذه المادة الدّلالة على الجَمْعِ، ومنه كتيبة الجَيْش، وكَتَبْتُ القربة، وكَتَبْتُ القربة : خَرَزْتُها، وَالكُتَبة - بضم " الكاف " الخرزة، والجمع كَتَب، قال :[البسيط] ١٠٤ - وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا
مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ
وكَتَبْتُ الدَّابة [إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ أَو سَيْرٍ] قال الشاعر :[البسيط] ١٠٥ - لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ
عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِإِسْيَارِ
والكتابة عرفاً ضمّ بعض حروف الهجاء إلى بعض.
قال ابن الخطيب :" واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن، قال تبارك وتعالى :﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ [ص : ٢٩].
والكتاب جاء في القرآن جاء في القرآن على وجوه : أحدها : الفرض ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة : ١٧٨] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة : ١٨٣]، ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾ [النساء : ١٠٣].
ثانيها : الحُجَّة والبُرْهان :﴿فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الصافات : ١٥٧] أي : بِبُرْهانكم وحجّتكم.
ثالثها : الأَجَل :﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر : ٤] أي : أَجَل.
رابعها : بمعي مُكَاتبة السيد عبده :﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور : ٣٣] وهذا المصدر " فِعَال " بمعنى " المُفَاعلة " كالجِدَال والخَصَام والقِتَال بمعنى : المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة.
٢٦٣