قال الفَارِسيُّ - عن أبي عثمان - :" أصلُ أخْذِ هذه القراءة عن نَافعِ " قال :" ولَمْ يَكُنْ يَدْرِي ما العَرَبِيَّةُ ".
قال شهابُ الدِّينِ : وقد فعلتِ العربُ مثل هذا، فَهَمَزُوا " مَنَائِرَ ومَصَائِبَ " جمع " منارةٍ ومُصِيبَة " والأصل " مَنَاوِرُ، ومَصَاوِبُ " وقد غلَّطَ سيبويه من قال مصائِبَ، ويعني بذلك أنَّهُ غلطه بالنسبة إلى مخالفة الجادَّةِ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال :" واعْلَمْ أنَّ بعضهم يغلط فيقول : إنَّهم أجمعونَ ذَاهِبُونَ " [قال] ومنهُمْ من يأتي بها على الأصل فَيَقُولُ : مصاوب ومناور، وهذا كما قالوا في جمع " مقالٍ " و " مقام " :" مقاول " و " مقاوم " في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال : وأنشد النَّحْوِيُّون على ذلك :[الطويل] ٢٤٠٧ - وإنِّي لَقَوَّامٌ مقَاوِمَ لَمْ يَكُنْ
جَريرٌ ولا مَوْلَى جرِيرٍ يَقُومُهَا
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٥
ووجه همزها أنَّهُم شبَّهوا الاصليَّ بالزَّائد فتوهموا أن " معيشة " بزنة " صحيفة " فهمزوها كما همزا " تيك " قالوا : ونظير ذلك في تشبيههم الأصل بالزائد قولهم في جميع " مسيل " " مُسْلان "، توهَّموه على أنَّه على زِنَةٍ " قضيبٍ وقُضْبَان " وقالوا في جمعه " أمْسِلَة " كأنَّهْمِ تَوَهَّمُوا أنَّهُ بزنة " رَغيفٍ، وأرْغِفَةٍ " وإنَّما مسيل وزنه " مفعلٌ " ؛ لأنه من سيلان الماءِ، وأنْشَدُوا على " مَسِيلِ، وأمْسِلة " قول أبِي ذُؤيْبٍ الهُذَلِيِّ :[الوافر] ٢٤٠٨ - بِوَادٍ لا أنِيسَ بِهِ يبابٍ
وأمْسِلَةٍ مَذَانِبُهَا خَلِيفُ
وقال الزَّجَّاجُ : جميعُ نُحَاةِ البَصْرَةِ يَزْعُمُونَ أنَّ همزها خَطَأ، ولا أعلم لها وجهاً إلاَّ التِّشْبِيه بـ " صحيفة " و " صحائف "، ولا ينبغي التَّعْوِيلُ على هذه القراءة.
قال شهابُ الدين : وهذه القراءةُ لم يَنْفَرِدْ بها نافعٌ بل قَرَأهَا جماعة جلَّةٌ معه ؛ فإنَّها منقولة عن ابن عامر الذي قَرَأ على جماعة من الصَّحابةِ كـ " عُثْمان " و " أبي الدَّرْدَاءِ " و " معاوية "، وقد يبق ذلك في " الأنعام "، فقد قَرَأ بها قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ، وهو عربي فَصِيحٌ وقَرَأ بها أيضاً زيدُ بْنُ عَلِيٍّ، وهو على جانب من الفَصَاحَة والعلم الذي لا يدانيه فيه إلاَّ القليل، وَقَرأ بها أيضاً الأعْمَشُ والأعْرَجُ وكفى بهما في الإتْقَانِ والضَّبْطِ.
وقد نقل الفرَّاءُ أنَّ قلب هذه الياء تشبيها لها بياء " صحيفة " قد جاء، وإن كان قليلاً.
وقوله :﴿قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ كقوله :﴿قَلِيلاً ما تَذكَّرُونَ﴾.
٢٦
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٥
لما ذكر كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ على العبد أتْبَعَهُ بذكر أنَّهُ خلف أبَانَا [آدم] وجعله مسجود الملائكة، والإنعامُ على الأبِ يَجْرِي مجرى الإنعام على الابن.
واختلف النَّاسُ في " ثُمَّ " في هذين الموضعين : فمنهم مَنْ لم يَلْتَزِم [فيها] ترتيباً، وجعلها بمنزلة " الواوِ " فإنَّ خلقنا وتصويرنا بعد قوله تعالى للملائكة " اسْجُدُوا ".
ومنهم من قال : هي للتَّرْتِيبِ لا في الزمان بل للترتيب في الإخبار ولا طائل في هذا.
ومنهم من قال : هي للتَّرْتِيب الزَّمَانيِّ، وهذا هو موضوعها الأصْلِيُّ.
ومنهم من قال : الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ والثَّانيةُ للتَّرتيبِ الإخْباريِّ.
واختلف عِبارةُ القائلين بأنَّها للتَّرْتِيب في الموضعين فقال بعضهم : أنَّ ذلك على حذف مضافين، والتقديرُ : ولقد خلقنا آباءَكُم ثم صوَّرْنَا آباءَكم ثم قلنا، ويعني بأبينا آدم - عليه الصلاة والسلام - وإنَّما خاطبه بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له، ولأنه أصلُ الجميع، والتَّرتيب أيضاً واضح.
وقال مجاهدٌ : المعنى خلقناكم في ظَهْرِ آدم ثم صوَّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق.
رواه عنه أبُو جريج وابْنُ أبِي نَجِيحٍ.
قال النَّحَّاسُ : وهذا أحْسَنُ الأقْوَالِ يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرَهُم حين أخذ عليهم الميثاقَ، ثمَّ كان السُّجُود [بعد ذلك] ويُقَوِّي هذا قوله تعالى :﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ [الأعراف : ١٧٢].
وفي الحديث أنَّهُ أخرجهم أمثال الذَّرِّ، فأخذ عليهم الميثاق.
وقال بعضهم : المُخَاطِبُ بَنُو آدم، والمرادُ بهم أبوهم وهذا من باب الخطاب لشَخْصٍ، والمُرَادُ به غيره كقوله :﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة : ٤٩]، وإنَّما المُنَجَّى والذي كان يُسَامُ سُوءَ العذاب أسلافهم.
وهذا مستيضٌ في لسانهم.
وأنشدوا على ذلك :[الطويل] ٢٤٠٩ - إذَا افْتَخَرَتْ يَوْماً تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا
وَزَادَتْ عَلَى مَا وطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ
٢٧
فأنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْ
عُرُوشَ الَّذِينَ اسْتَرهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٧