وهذه الوَقْعَةُ إنَّما كانت في أسلافهم.
والترَّتيبُ أيضاً واضح على هذا.
ومن قالك إن الأولى للتَّرتيب الزَّماني، والثَّانية للتَّرْتيب الإخْبَارِيِّ اختلفت عباراتهم أيضاً.
فقال بعضهم : المرادُ بالخطابِ الأوَّلِ آدمُ، وبالثَّاني ذريَّتُهُ، والترتيب الزَّمانيُّ واضح و " ثُمَّ " الثَّانية للتَّرْتِيب الإخباريِّ.
وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرناكم في بُطُونِ أمهاتكم.
وقال بعضهم :[ولقد خلقنا] أرواحكم ثم صوَّرْنَا أجسامكم، وهذا غَرِيبٌ نقله القَاضِي أبو عليٍّ في " المعتمد ".
وقال بعضهم : خلقناكم نُطَفاً في أصلابِ الرِّجال، ثُمَّ صوَّرْناكم في أرحام النٍّساءِ.
وقال بعضهم : ولقد خلناكم في بطون أمَّهاتكم وصوَّرناكُم فيها بعد الخلق بِشَقِّ السَّمع والبصرِ، فـ " ثمَّ " الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ، والثانية للترتيب الإخباري أي : ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة.
وقيل : إنَّ " ثُمَّ " الثانية بمعنى " الواو " [أي] وقلنا للملائكة فلا تكون للتَّرتيب.
وقيل : فيه تقديمٌ وتأخير تقديرُهُ : ولقد خلقناكم يعني آجم، ثمَّ قلنا للملائكة اسجُدُوا، ثمّ صوَّرنَاكم.
وقال بعضهم : إنَّ الخلق في اللُّغَة عبارة عن التقدير، وتقدير اللَّه عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كلِّ شيءٍ بمقداره المعيِّنٍ، فقوله " خَلَقْنَاكُم " إشارة إلى حكم الله، وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم.
وقوله " صَوَّرْنَاكُم " إشارة إلى أنَّهُ تعالى [أثبت في اللَّوْحِ المحفوظ صورة كل كائن يحدث] إلى يوم القيامة، فخلق الله تعالى عبارة عن حكمه ومشيئته، والتَّصوير عبارة عن إثْبَاتِ صورة الأشياء في اللَّوحِ المحفوظ.
ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم، وأمر الملائكة بالسُّجود.
قال ابن الخطيب : وهذا التَّأوِيلُ عندي أقْرَبُ من سائر الوُجُوهِ.
وقد تقدَّم الكلامُ في هذا السُّجود، واختلاف الناس فيه في سورة البقرة.
قوله :" إلاَّ إبليسَ " تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة.
وكان الحسن يقول : إبليسُ لم
١٨
يكن من الملائكةِ ؛ لأنه خُلقَ من نارٍ والملائكة من نور لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، و[هو ليس كذلك فقد عصى إبليس واستكبر، والملائكةُ ليسوا من الجنِّ وإبليسُ من الجنِّ، والملائكة رسُلُ اللَّهِ، وإبليسُ ليس كذلك، وإبليسُ أوَّلُ خليقة الجنِّ وأبوهم كما أنَّ آدمَ أوَّلُ خليقة الإنس وأبُوهم، وإبليسُ له ذُرِيَّةٌ والملائكة لا ذُرِّيَّةَ لهم.
قال الحسنُ : ولمَّا كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه اللَّهُ وكان اسم إبليسَ شيئاً آخر فلما عَصَى اللَّهَ سمَّاهُ بذلك، وكان مؤمناً عابداً في السَّماءِ حتَّى عصى الله ؛ فأهبط إلى الأرض].
قوله :" لَمْ يَكُنْ " هذه الجملة استئنافِيَّةٌ ؛ لأنها جوابُ سؤال مقدَّرٍ، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة " أبَى "، وتقدَّم أنَّ الوقف على إبليس.
وقيل : فائدة هذه الجُمْلَة التَّوكيد لما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس.
وقال أبُو البقاءِ : إنَّهَا في محلِّ نصب على الحال أي : إلاَّ إبليس حال كونه ممتنعاً من السُّجُودِ، وهذا كما تقدَّم له في البقرة من أن " أبَى " في موضع نصب على الحال.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٧
في " لا " هذه وجهان : أظهرهما : أنها زائدة للتوكيد.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ :" لا " في " ألاَّ تسجد " صلة بدليل قوله تعالى :﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [سورة ص : ٧٥] ومثلها ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [الحديد : ٢٩] بمعنى ليعلم، ثم قال : فإن قلت ما فائدةُ زيادتها ؟ قلت : توكيد بمعنى الفعل الذي يدخلُ عليه، وتحقيقه كأنه قيل : يستحق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السُّجُود، وتُلزمه نفسك إذا أمرتك ؟.
وأنْشَدُوا على زيادة " لا " قول الشَّاعر :[الطويل] ٢٤١٠ - أبَى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلتْ نَعَمْ
بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ
يروى " البُخْل " بالنصب والجر، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها، تقديره : أبى جُودهُ البخل.
وأمَّا رواية الجر فالظَّاهرُ منها عدم الدلالة على زيادتها، ولا حجَّة في هذا البيت على زيادة " لا " في رواية النَّصْبِ، ويتخرَّجُ على وجهين :
٢٩
أحدهما : أن تكون " لا " مفعولاً بها، و " البخل " بدلٌ منها ؛ لأن " لا " تقالُ في المنع فهي مؤدِّية للبُخْلِ.
والثاني : أنَّها مفعول بها أيضاً، و " البُخْل " مفعول من أجْلِهِ، والمعنى : أبي جُودُه لفظ " لا " لأجل البُخْلِ أي : كَرَاهَة البُخْلِ، ويؤيِّدُ عدَمَ الزِّيادةِ روايةُ الجَرِّ.
قال أبُو عمرو بْنُ العلاءِ :" الرِّوايةُ فيه بخفض " البُخْلِ " ؛ لأن " لا " تستعمل في البُخْلِ "، وأنشدُوا أيضاً على زيادتها قول الآخر :[الكامل] ٢٤١١ -
أفَعَنْكِ لا بَرْقٌ كأنَّ وَميضَهُ
غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ