مَجْرَى الإغْرَاءِ بالقَبِيح، وذلك غير جَائزٍ على اللَّهِ تعالى.
وأجاب الأوَّلُونَ بأنَّ تَعْرِيفَ اللَّه - تعالى - كَوْنَهُ من المُنْظَرِينَ إلى يَوْمَ القِيَامَةِ لا يقْتَضِي إغْراءً ؛ لأنَّهُ تعالى كَانَ يعلمُ أنَّهُ يمُوتُ على أقْبَح أنْواعِ الكُفْرِ والفِسْقِ، سواء عَلِمَ وَقْتَ موته، أوْ لم يعلمْهُ، فلم يكنْ ذلك الإعلامُ موجِباً إغراءَهُ بالقبيح، ومثاله أنَّهُ تعالى عرَّف أنبياءَهُ أنَّهُم يموتون على الطَّهَارَة والعِصْمَةِ، ولم يكن ذلك مُوجِباً إغراءهم بالقبيح ؛ لأجل أنه تعالى عَلِمَ أنَّهُ سواء عرَّفَهُم تلك الحالة، أم لم يعرِّفْهُمْ تلك الحالة، فإنَّهُم يَمُوتُونَ على الطَّهارة والعِصْمةِ، فلمَّا كان حالهم لا يَتَفَاوت بسببِ هذا التَّعْرِيف، فلا جَرَمَ لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيحِ فكذلك ههنا.
قوله :﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾ في هذه " الباء " وجهان : أحدهما : أنَّهَا قسميَّةٌ وهو الظَّاهِرُ أي : بقدرتك عليَّ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم الذي يسلكونه إلى الجَنَّةِ بأن أزيِّنَ لهم الباطِل، وما يُكْسِبُهُمْ المآثِمَ.
ويدل على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة " ص " :﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ [الآية : ٨٢].
والثاني : أنَّها سببيَّةٌ، وبه بدأ الزَّمَخْشَرِيُّ قال :﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾ فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ ؛ لأقعدن لهم، ثم قال :" والمعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم ".
فإنْ قُلْتَ : بِمَ تعلَّقَتِ " البَاءُ " ؛ فإنَّ تعلها بـ " لأقْعَدُنّ " يصدُّ عنه لام القسم لا تقولُ : واللَّه بزيدٍ لأمرنّ ؟ قُلْتُ : تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ [أي] : فبسبب إغوائك أقسم.
ويجُوزُ أن يكون " البَاءُ " للقسم أي : فأقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ.
قال شهابُ الدِّين.
وهذان الوَجْهَانِ سبقه إليهما أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ، وذكر عبارةً قريبةً من هذه العِبارَةِ.
وقال أبو حيان :" وما ذكره من أنَّ اللاَّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ بـ " لأقْعُدَنَّ " ليس حكماً مجتمعاً عليه، بل في ذلك خِلافٌ ".
قال شهابُ الدِّين : أما الخلافُ فنعم، لكنَّهُ خلافٌ ضعيفٌ لا يعتد به أبُو القَاسِمُ، والشَّيْخُ نَفْسُهُ قد قال عند قوله تعالى :﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [الأعراف : ١٨] في قراءة من كَسَرَ اللاَّم في " لِمَنْ " : إنَّ ذلك لا يجيزه الجمهورُ، وسيأتي مبينّاً إن شاء اللَّهُ تعالى.
٣٧
و " مَا " تَحْتَمِلُ ثلاثةَ أوْجُهٍ : أظهرها : أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ أي : فَبِإغوائِكَ إيَايَ.
والثاني : أنَّها استفهاميَّةٌ يعني أنَّهُ اسْتَفْهَمَ عن السَّبب الذي إغواهُ به فقال : فبأيِّ شيءٍ من الأشْيَاءِ أغْوَيْتَنِي ؟ ثم استأنَفَ جُمْلَةً أقْسَمَ فيها بقوله :" لأقْعُدَنَّ " وهذا ضعيفٌ عند بعضهم، أو ضرورةً عند آخرينَ من حيثُ أنَّ " مَا " الاسفتهاميَّة إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفُهَا، ولا تثبت إلاَّ في شذوذ كقولهم : عمَّا تَسْألُ ؟ أو ضَرُورَةً كقوله :[الوافر] ٢٤١٢ - عَلَى مَا قَامَ يَشْتمُنِي لَئِيمٌ
كَخِنْزير تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٣٦
والثالث : أنَّها شرطيةٌ، وهو قول ابن الأنْبَارِيِّ، ونَصُّهُ قال - رحمه الله - : ويجوز أن يكون " مَا " بتأويل الشَّرْطِ، و " الباء " من صلة الإغواء، والفاءُ المضْمَرةُ جوابُ الشَّرْطِ، والتقديرُ : فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطَكَ ؛ فتُضْمَرُ الفاءُ [في] جواب الشَّرْطِ كما تُضْمِرُهَا في قولك :" إلَى مَا أوْمَأتَ أنِّي قَابِلُهُ، وبما أمرت أني سامعٌ مطيعٌ ".
وهذا الذي قاله ضعيف جدّاً، فإنَّهُ على تقدير صحَّةِ معناهُ يمتنعُ من حيث الصناعةُ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلاَّ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كقوله :[البسط] ٢٤١٣ - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا
والشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلانِ
أيْ : فالله.
وكان المبرد لا يُجَوَّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور :[البسيط] ٢٤١٤ - مَنْ يَفْعَل الخَيْرَ فالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ
............................


الصفحة التالية
Icon