" الباء " للحال أي : مصاحبين للغرور، أو مصاحباً للغرور فهي حال : إمَّا من الفاعل، أو من المفعول ويجوز أن تكون الباءُ سببيَّةً أي : دَلاَّهُمَا بسببِ أنْ غَرَّهُمَا.
والغُرُورُ : مصدرٌ حُذف فَاعِلُهُ ومفعوله، والتقديرُ : بِغُروره إيَّاهُمَا وقوله :" فَدَلاَّهَمَا " يحتملُ أن يكون من التَدْلِيَةِ من معنى دَلاَ دَلْوَه في البِئْرِ، والمعنى أطمعهما.
قال أبُو منصور الزْهَرِيُّ : لهذه الكلمة أصلان : أحدهما : أن يكون أصْلُهُ أن الرَّجُلَ العَطْشَانَ يُدْلِي رِجْلَهُ في البئر ليأخذ الماء، فلا يجدُ فيها ماء فوضعت التَّدْلية موضع الطَّمعِ فيما لا فائدة فيه، يقالُ : دَلاَّهُ : إذا أطْمَعَهُ.
قال أبُو جنْدَبٍ :[الوافر] ٢٤٣٦ - أحُصُّ فَلاَ أُجِيرُ ومَنْ أُجِرْهُ
فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بالغُرُورِ
وأن تكون من الدَّالِّ، والدَّالَّةَ، وهي الجُرْأة [أي] : فَجَرَّأهما قال :[الوافر] ٢٤٣٧ - أظُنُّ الحِلْمُ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي
وقدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الحَلِيمُ
٦٠
وعلى الثاني [يكون] الأصل دَلَّلَهُمَا، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال فأبدلت الثَّالث حرف لين كقولهم : تَظنَّيْتُ في تظَّننْت، وقَصَّيْتُ أظْفَاري في قَصَصْتُ.
وقال :[الرجز]
٢٤٣٨ - تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ
فصل في معنى " فدلاهما بغرور " قال ابنُ عبَّاس " فَدلاَّهُمَا بِغُرُورٍ " أي غرهما باليمين وكان آدمُ يظنُّ أنَّ أحداً لا يحلف كَاذِباً باللَّه.
وعن ابن عمر أنَّهُ كان إذا رَأى من عبيده طاعةً وحسن صلاة أعْتَقَهُ فكان عبيدُهُ يفعلون ذلك طلباً لِلْعتْقِ فقيل له إنَّهُم يخدعُونَكَ فقال : من خَدَعَنَا باللَّهِ ؛ انخدعنا له.
قيل معناه ما زال يخدعه، ويكلمه بزخرف من القول باطل.
وقيل حطَّهُمَا من مَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ إلى حالةِ المَعْصية، ولا يكونُ الدلوى إلاَّ من علوٍّ إلى أسْفَلٍ.
قوله :﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ﴾ " الذَّوْقُ " وجود الطَّعْمِ بالفَم، ويعبر به عن الأكل وقيل : الذَّوْقُ مَسُّ الشَّيْءِ باللِّسانِ، أو بالفَمِ يُقَالُ فيه : ذاق يَذُوقُ ذُوْقاً مثل صَامَ، يَصُومُ صَوْماً، ونَامَ يَنَامُ نَوْماً.
وهذه الآية تدل على أنهما تناولا البُرَّ قَصْداً إلى معرفة طعمه، ولولا أنَّهُ تعالى ذكر في آية أخرى أنَّهُمَا أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدُلُّ على الأكل ؛ لأنَّ الذَّائِقَ قد يكونُ ذَائِقاً من دون أكل.
قوله :﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ أي ظهرت عَوْرَتُهُمَا وزال اللِّبَاسُ عنهما.
روي عن ابن عباس أنَّهُ قال : قبل أن ازدردا أخذتها العقوبة وظهرت لهما عورتهما، وتهافت لباسهما حتى أبْصَر كُلُّ واحدٍ منهما ما وُوْرِيَ عنه من عَوْرَةِ صَاحبهِ فكانَا لا يريان ذلك.
قوله " وطَفِقَا " طَفِقَ من أفعال الشُّرُوعِ كأخَذَ وجعل، وأنْشَأ وعلَّق وهبَّ وانبرى،
٦١
فهذه تَدُلُّ على التَّلَبُّسِ بأوَّلِ الفِعْلِ، وحكمها حكم أفْعَالِ المُقاربَةِ من كون خبرها لا يكون غلاَّ مُضَارِعاً، ولا يجوز أن يقترن بـ " أن " لمنافاتها لها ؛ لأنها للشُّروع وهو حال و " أنْ " للاستقبال، وقد يقعُ الخبرُ جملة اسمية كقوله :[الوافر] ٢٤٣٩ - وَقَدْ جَعَلَتْ قَلُوصُ بَنِي سُهَيْلٍ
مِنَ الأكْوَارِ مَرْتَعُهَا قَرِيبُ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦٠
وشرطيَّة كـ " إذا " كقوله عمر :" فَجَعلَ الرَّجُلُ إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً ".
ويقال طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها، وطَبِقَ بالباء الموحدة أيضاً، والألف اسمها، و " يَخْصَفَان " خَبَرُهَا.
وقرأ أبُوا السمالِ :" وطَفَقَا " بفتح الفاء.
وقرأ الزُّهْرِيُّ :" يُخْصِفَانِ " بضم حرف المضارعة من أخْصَفَ وهي تحتمل وجهين : أحدهما : ان يكون أفْعَلَ بمعنى فَعَلَ.
والثاني : أن تكون الهَمْزَةُ للتَّعْديَة، والمَفْعُولُ على هذا مَحْذُوفُ، أي : يُخْصِفَانِ أنفسهما، أي : يَجْعلانِ أنفسَهُمَا خاصِفَيْنِ.
وقرأ الحسنُ، والأعرجُ ومُجاهِدٌ وابْنُ وثَّابٍ " يَخِصِّفانِ " بفتح الياء وكسر الخاء، والصَّاد مشدودةٌ، والأصْلُ يَخْصِفَانِ، فأدغمت التَّاءُ في الصَّادِ، ثم اتْبعت الخَاءُ للصَّادِ في حركتها، وسيأتي نظيرُ هذه القراءة في " يُونس " و " يس " نحو ﴿يَهْدِى ﴾ [يونس : ٣٥] و ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ [يس : ٤٩].
وروى مَحْبُوبٌ عن الحسنِ كذلك إلاَّ أنَّهُ فتح الخاء، فلم يُتْبِعْها للصَّادِ وهي قراءةُ يعقوب وابْنِ بُرَيْدَةَ.
وقرأ عبد الله " يُخُصِّفان " بضمِّ الياءِ والخَاءِ وكسر الصَّادِ مشدودة وهي من " خَصِّفَ " بالتَّشديد، إلاَّ أنَّهُ أتبع الخاء للياء قبلها في الحركةِ، وهي قراءة عَسِرةُ النُّطْقِ.
ويَدُلُّ عل أنَّ أصْلها مِنْ خَصَّفَ بالتَّشديدِ قِراءةُ بعضهم " يُخَصِّفان " كذلك، إلاَّ أنَّهُ بفتح الخاء على أصلها.
٦٢