فأمر اللَّهُ تعالى بالسَّتْرِ فقال :﴿لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ﴾ يستر عوراتِكُم، واحدتها سَوْءَةُ، سمِّيت بها ؛ لأنَّهُ يسوءُ صاحبه انكشافُهَا، فلا يطوف عارياً.
قوله :" يُوَارِي " : في محلِّ نصبٍ صفة لـ " لِبَاساً ".
وقوله :" وَرِيشاً " يحتملُ أن يكون من باب عَطْفِ الصِّفاتِ، والمعنى : وصف اللِّبَاسِ بشيئين : مواراة السَّوْءَةِ، وعبَّر عنها بالرِّيشِ لأنَّ الرِّيشَ زينة للطَّائِر، كما أنَّ اللَّباسَ زينة للآدميِّين، ولذلك قال الزَّمَخْشَرِيُّ :" والرِّيشُ لباسُ الزِّنة، استعير من ريش الطَّيْرِ ؛ لأنَّهُ لباسه وزينته ".
ويحتمل أن يكون من باب عطف الشَّيءِ على غيره أي : أنْزَلْنَا عليكم لباسين، لباساً موصوفاً بالمُواراةِ، ولِبَاساً موصوفاً بالزِّينةِ، وهذا اختيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فإنَّهُ قال بعد ما حَكَيْتُه عنه آنفاً :" أي : أنزلنا عليكم لباسَيْن، لباساً يُواري سَوْءاتكم، ولباساً يُزَيِّنُكُم ؛ لأنَّ الزَّينةَ غرضٌ صحيحٌ كما قال تعالى :﴿لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل : ٨] ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ [النحل : ٦] وعلى هذا، فالكلامُ في قوة حذف موصوف، وإقامةِ صفته مُقامه، والتَّقْديرُ : ولباساً ريشاً أي : ذا ريش ".
فصل في وجوب ستر العورة قال القُرْطُبِيُّ : استدلَّ كثر من العلماء بهذه الآيةِ على وجوب ستر عَوْرَاتهم، وذلك يدلُّ على الأمر بالسَّتْر، ولا خلاف في وجوب سَتْرِ العَوْرَةِ.
واختلفوا في العَوْرَةِ ما هي ؟ فقال ابْنُ أبي ذئْبٍ : هي القُبُلُ والدُّبُرُ فقط، وهو قول أهْلِ الظَّاهِر، وابن أبي عَبْلة والطَّبْرِيِّ لقوله تعالى :﴿لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ﴾، وقوله :﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ [الأعراف : ٢٢]، وقوله :﴿لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِكُمْ﴾ [الأعراف : ٢٧].
وفي البخاريِّ عن أنس أن رسول الله ﷺ حَسَرَ الإزار عن فَخِذِهِ حَتّى إنِّي أنْظُرُ إلى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مالكٌ :" ليست السُّرَّة بِعَوْرَةٍ، وأكره له أنْ يَكْشِفَ فَخذَهُ ".
٦٧
وقال الشافعيُّ :" ليست السُّرَّة ولا الركبتان من العورة على الصحيح ".
وقال أبُو بَكْر بْنُ عبْدِ الرَّحمْنِ بْنِ الحارث بن هشام :" كلُّ شيء من الحرة عورةٌ، حتى ظَّفِّرهَا، وهو حسن ".
وعن أحْمَد بْنِ حَنْبلٍ :" وعورة الأمَةِ ما بين السُّرَّة والرُّكبة وأم الولدِ أغلظ حالاً من الأمَةِ ".
و " الرِّيْشُ " فيه قولان : أحدهما : أنه اسم لهذا الشَّيءِ المعروف.
والثاني : أنَّهُ مصدرٌ يقال : راشه يريشه رِيشاً إذا جعل فيه الرِّيشَ، فينبغي أنْ يكون الريش مُشْتَركاً بين المصدر والعينِ، وهذا هو التَّحقيق.
وقرأ عثمانُ وابن عبَّاسٍ والحسنُ ومجاهدٌ وقتادةُ والسُّلميُّ وعليُّ بْنُ الحسيْنِ وابنه زيْدً، وأبو رجَاء، وزرُّ بْنُ حبيشٍ وعاصمٌ، وأبُو عَمْروا - في رواية عنهما - :" وَرِيَاشاً "، وفيها تأويلان : أحدهما - وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ - : أنَّهُ جمعُ رِيْش، فيكون كشِعْب وشِعابٍ، وذِئْبٍ وذئَابٍ، وقِدْحٍ وقِدَاحٍ.
والثاني : أنَّه مصدر أيضاً، فيكون رِيشٌ وِرِيَاشٌ مصدرين لـ " رَاشَهُ اللَّهُ ريشاً ورِيَاشاً " أي : أنْعَمَ عليه.
وقال الزجاجُ :" هما اللِّبَاسُ، فعلى هذا هما اسمان للشَّيْءِ المَلْبُوسِ، كما قالوا : لِبْسٌ ولباسٌ ".
وجوَّز الفراء أن يكون " رِيَاش " جمع " رِيش "، وأن يكون مصدراً فأخذ الزَّمَخْشَرِيُّ بأحد القولين، وغيرُه بالىخر، وأنشدوا قول الشاعر :[الوافر] ٢٤٤٥ - وَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ
وَإنْ كَانَتْ زِيَارتُكُمْ لِمَامَا
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦٦
روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي قال :" كُلُّ شيءٍ يعيشُ به الإنسانُ، من متاع، أو مال، أو مأكول، فهو ريشٌ ورِيَاشٌ " وقال ابن السكِّيتِ :" الرِّيَاشُ مختص بالثِّيابِ، والأثاثِ، والرِّيش قد يُطلق على سَائِرِ الأمْوالِ ".
قال ابنُ عباسِ ومجاهدٌ والضَّحاكُ والسُّدِّيُّ :" وريشاً يعني مالاً، يقال تريش الرَّجُل إذا تَمَوَّلَ ".
٦٧
وقيل : الرِّيشُ : الجمالُ كام تقدَّم أي : ما يتجملون به من الثِّيابِ.
وقوله :﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ﴾.
قرأ نافعٌ وابن عامرٍ والكسائيُّ :" لباسَ " بالنَّصْبِ، والباقون بالرَّفْعِ.
فالنَّصْبُ نَسَقاً على " لِبَاساً " أي : أنزلنا لِبَاساً مُوارِياً وزينة، وأنزلنا أيضاً لِبَاس التَّقْوَى، وهذا يُقَوِّي كَوْنَ " رِيشاً " صفة ثانية لـ " لِبَاساً " الولى إذْ لو أراد أنَّهُ صفة لِبَاسٍ ثانٍ لأبرز موصوفه، كما أبْرَزَ هذا اللِّبَاسَ المضاف للتَّقْوَى.
وأما الرَّفْعُ فمن خَمْسَةِ أوْجُهٍ :
٥١٩