قال ابْنُ عطيَّة ليقع التوبيخ بصفة قَوْمٍ قد فعلوا أمثالاً للمؤمنين إذا شبه فعلهم فعل الممثل بهم.
قوله :" وَجَدْنَا " يحتمل أنْ يكون العلمية أي علمنا طريقهم أنها هذه، ويحتمل أن يكون بمعنى : لَقِينَا، فيكون مفعولاً ثانياً على الأول وحالاً على الثاني.

فصل في المراد من الآية.


قوله ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ : هي طوافهم بالبيت عراة.
وقال عطاءٌ : الشِّرك.
وقيل : ما كَانُوا يحرمونه من البحيرةِ والسَّائِبَةِ وغيرها، وهو اسم لكلِّ فعل قبيح بلغ النَّهايةَ في القُبْحِ، فالأولى أن يحكم بالتعميم، وفيه إضمارٌ مَعْنَاهُ : وإذا فعلوا فَاحِشَةً فنهوا عنها قالوا : وجدنا عليها آباءنا.
قيل : ومن أينَ أخذ آباؤكم ؟ قالوا : اللَّهُ أمَرَنَا بها.
واعلم أنَّهُ ليس المرادُ أنَّ القومَ كَانُوا يعتقدونَ أن تلك الأفعال فواحش ثم يزعمون أنَّ الله أمرهم بها، فإنَّ ذلك لا يقولهُ عاقلٌ، بل المراد أن تلك الأشياء في أنفسها فواحش، والقوم كَانُوا يعتقدون أنها طاعات والله امرهم بها ثُمَّ إنَّهُ تعالى حكى عنهم أنَّهُم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحِشِ بأمرين.
أحدهما :﴿وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا﴾.
والثاني :﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾.
فأمَّا الحُجَّةُ الأولى فما ذكر الله عنها جواباً لأنَّها محض التَّقْلِيد، وهو طريقة فاسدَةٌ في عقل كلِّ أحد ؛ لأنَّ التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التَّقلِيدُ حقاً للزَِ الحكمُ بأنَّ كُلَّ من المتناقضين حقّاً وذلك باطلٌ، ولما كان فساد هذا الطَّريق ظاهراً جلياً لم يذكر الجواب عنه.
وأمّا الحجَّةُ الثَّانِية وهي قولهم :﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ فقد أجَابَ اللَّهُ عنها بقوله :﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ﴾ والمعنى أنَّه لما بين على لِسانِ الأنْبِيَاءِ والرُّسُلِ كون هذه الأفعال منكرة قبيحة، فكيف يمكن القول بأنَّ اللَّهَ تعالى أمرنَا بِهَا.
وقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ﴾ حذف المفعول الأوَّل للعلم به أي لا يأمر أحداً أو لا يأمركم يا مُدَّعين ذلك.
٧٩
فصل قالت المعتزلَةُ : قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ﴾ إشارة إلى أنَّهُ لما كان موصوفاً في نفسه بكونه من الفحشاء ؛ امتنع أن يأمر الله به، وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه فحشاً مغايراً لتعلق الأمر والنَّهْيِ بِهِ.
والجوابُ : لما ثبت بالاستقراءِ أنَّهُ تعالى لا يأمرُ إلا بما يكون مصلحة للعباد ولا ينهى إلا عمَّا يكون مفسدة لهم، فقد صَحَّ هذا التَّعْلِيلُ.
قوله :﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ والمعنى أن قولكم : إنَّ اللَّه أمَرَكُمْ بهذه الأفعال إمَّا لأنكم سمعتم كلام اللَّهِ تعالى ابتداء من غير واسطة، أو عرفتم ذلك بطريقِ الوحي عن الأنْبِيَاءِ.
أما الأول : فباطل بالضَّرُورةِ.
وأما الثاني : فباطل على قولكم لأنَّكُم تنكرون نبوّة الأنبياءِ على الإطلاق لأن هذه المناظرة مع كُفَّار قُرَيْشٍ، وهم كانوا منكرين أصْلَ النُّبُوَّةِ، وإذا كان كذلك، فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحْكَامِ اللَّهِ تعالى، فكان قولهم : إنَّ الله أمرنا بها قولاً على اللَّه بما لا يَعْلَمُونَ، وإنَّهُ بَاطِلٌ.
قوله :﴿مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ مفعول به، وهذا مفرد في قوة الجملة ؛ لأنَّ ما لا يعلمون ممَّا يتقولونه على الله - تعالى - كلام كَثِيرٌ من قولهم :﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ كتبحير البحائر وتسبيب السَّوائب، وطوافهم بالبيت عُراةً إلى غير ذلك حذف المفعول من قوله :﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ [الأعراف : ٢٩].
فصل في دحض شبهة لنفاة القياس استدلَّ بهذه الآية نفاةُ القياس ؛ لأنَّ الحكم المثبت بالقياس مظنون غير معلوم وما لا يكون معلوماً لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذَّمِّ :﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وقد تقدَّم جوابٌ عن مثل هذه الدلالة.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٧٨
قال ابن عباس : أمر ربِّي بـ " لا إله إلا الله " لقوله تعالى :﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ﴾ [آل عمران : ١٨] إلى قوله :﴿قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران : ١٨].
وقال الضحاك : هو بالتوحيد.
وقال مُجَاهِدٌ : والسُّدِّيُّ : بالعدل.
٨٠
قوله :" وأقِيمُوا " فيه وجْهَانِ : أظهرهما : أنَّهُ مَعْطُوفٌ على الأمْرِ المقدر أي الذي ينحل إليه المصدر، وهو " بالقِسْطِ " وذلك أنَّ القِسْط مصدر فهو ينحل لحرف مصدري، وفعل، فالتَّقديرُ : قل : أمر ربي بأن أقسطوا وأقيموا، وكما أنَّ المصدر ينحلُّ إلى " أنَّ والفعل الماضي " نحو : عَجِبْتُ من قِيَام زَيْدٍ وخرج، أي : من أن قام، وخَرَجَ ولـ " أن " وللفعل المضارع كقولها :[الوافر] ٢٤٤٩ - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقرَّ عَيْنِي
.........................


الصفحة التالية
Icon