أي : لأن ألبس عباءة وتقر، كذلك ينحل لـ " أنَّ " وفعل أمر ؛ لأنَّهَا توصل بالثَّلاث الصِّيغ : الماضي والمُضارع والأمر بشرط التَّصَرُّف، وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألة وإشكالها وجوابُهُ.
وهذا بخلاف " ما " فإنَّهَا لا تُوصَلُ بالأمْرِ، وبخلاف " كي " فإنَّهَا لا توصل إلا بالمُضَارِع، فلذلك لا ينحلُّ المصدر إلى " ما " وفعل أمر، ولا إلى " كي " وفعل ماضي أو مضارع.
وقال الزَّمخْشَرِيُّ : وقل أقيموا وجوهكم أي : اقصدوا عبادته، وهذا من الزَّمَخْشَرِيُّ يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون قوله " قل " أراد أنه مقدر غير هذا الملفوظ به فيكون " وأقيموا " معمولاً لقول أمر مقدر، وأن يكون معطوفاً على قوله :" أمر رَبِّي " فإنه معمول لـ " قل " وإنما أظهر الزَّمَخْشرِيُّ " قُلْ " مع أقِيمُوا لتحْقيق عطفيته على " أمر رَبِّي ".
ويجوز أن يكُون قوله " وأقِيمُوا " معطوفاً على أمْرٍ محذوف تقديره قل : أقبلوا وأقيموا.
وقال الجُرْجانِيُّ صاحب " النَّظْم " : نسق الأمر على الجر وجاز ذلك ؛ لأنَّ قوله ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي﴾ قول لأن الأمْرَ لا يكُونُ إلا كلاماً، والكلام قول، وكأنه قال : قل : يقول ربي : اقسطوا وأقيموا، يعني أنَّهُ عطف على المعنى.
و " مسجد " هنا يحتمل أن يكون مَكَاناً وزماناً.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : في وقت كلِّ سُجُودٍ، وفي مكان كلِّ سُجُودٍ، وكان من حَقِّ " مسجد " بفتح العين لضمها في المضارع، وله في هذا الشذوذ أخوات كثيرة مذكورة في التَّصريفِ.
٨١
فصل في المراد بـ " أقيموا وجوهكم " قال مجاهد والسدي : معنى ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وجهوا حَيْثُ ما كنتم في الصَّلاةِ إلى الكَعْبَةِ.
وقال ابْنُ عبَّاس والضحاك : إذا حضرت الصَّلاةُ، وأنتم عند مَسْجِدِ فصلُّوا فيه ولا يقولن أحدكُم أصلي في مَسجْدِي.
وقيل : معناه : اجعلوا سجودكم لِلَّهِ خَالِصاً، والسبب في ذكر هذين القولين أنّ إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القِبْلَةِ، وقد تكون بالإخلاص في تلك العِبَادَةِ.
والأقرب هو الأوَّلُ ؛ لأنَّ الإخْلاَصَ مذكور بعده، فلو حملناه على معنى الإخلاص صار كأنَّهُ قال : وأخلصوا عند كلِّ مَسْجدٍ وادْعُوه مُخلصينَ، وذلك لا يستقيم.
فإن قيل يستقيمُ ذلك إذا علقت الإخلاصَ بالدُّعَاءِ فقط.
فالجواب لما أمكنرجوعه إليهما جميعاً لم يَجُزْ قصرهما على أحدهما خصوصاً مع قوله :﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ فعم كل ما يسمى ديناً، وإذا ثبت هذا فاختلفوا في قوله :﴿عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ هل المرادُ منه زمان الصَّلاة أو مكانها على ما تقدم ؟ قوله :" مُخْلِصينَ " حال من فاعل " ادْعُوه "، " الدَّين " مفعولٌ به باسْمِ الفاعل وله متعلق بـ " مخْلِصِينَ " حال من فاعل " ادْعُوه "، و " الدِّين " مفعولٌ به باسْمِ الفاعل وله متعلق بـ " مخْلِصين " ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ من " الدين "، والمراد اعبدوه مخلصين له الطَّاعة.
" والعِبَادَة " قال ابن الخطيب : المرادُ به أعمالُ الصَّلاةِ، وسمَّاها دعاءً لأنَّ الصلاة في اللُغة عبارة عن الدُّعاء، ونظيره قوله ﴿وَمَآ أُمِرُوا ااْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة : ٥].
قوله :" كَمَا بَدَأَكُمْ " " الكاف " في محل نَصْبِ نَعْتاً لمصدر محذوف تقديرُهُ : تعُودُون عَوْداً مثل ما بدأكم.
وقيل : تقديره : تُخْرَجُونَ خُرُوجاً مثل ما بَدَأكُم ذكرهما مَكي، والأوَّل أليق بلفظ الآية الكريمة.
وقال ابن الأنْبَارِيِّ : موضع " الكاف " في " كما " نصب بـ " تَعُودُونَ " وهو على مذهب العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي : تعودون كما ابتدأ خلقكم.
قال الفارسي : كما بَدَأكُم تعودُون ليس على ظَاهِرِه إذ ظاهره تعودون على البَدْءِ،
٨٢


الصفحة التالية
Icon