لاهل الدُّنيا أي : ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق.
وقرأ أبثو بَكْرِ عن عاصمٍ بالغيبة، وهي تحتمل أن يكون الضَّمير عائداً على الطائفة السّائلة تضعيف العذاب، أو على الطّائفتين، أي : لا يعلمون قَدْر ما أعدَّ لهم من العذاب.
فإن قيل : إن كان المراد من قوله : لكلّ أحد من العذاب ضعف ما يستحقه، فذلك غير جائز ؛ لأنَّهُ ظلم، وإن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفاً ؟.
فالجوابُ : أنَّ عذاب الكفَّار يزيد فكل ألم يحصل فإنَّهُ يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية، فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدةٍ لا إلى آخر.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٠٥
قوله :" وَقَالَتْ أُولاَهُمْ " أي في ترك الكُفْرِ والضَّلال وإنَّا متشاركون في استحقاق العذاب.
فإن قيل : إن هذا منهم كذب ؛ لأنَّهُمْ لكونهم رؤساء سادة وقادة، قد دعوا إلى الكُفْرِ والتَّرغيب فيه، فكانُوا ضالِّين مضلّين، وأمَّا الأتباع والضَّعفاء وإن كانوا ضَالين إلاَّ أنَّهُم ما كانوا مضلّين، فبطل قولهم : إنَّهُ لا فضل للأتباع على الرُّؤساء في تَرْكِ الضَّلال والكُفْرِ.
فالجواب : أنَّ أقصى ما في الباب أنَّهم كذبوا في هذا القول يوم القيامة، وعندنا أنَّ ذلك جائز كما قرّرناه في سورة الأنعام في قوله :﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام : ٢٣].
قوله :" فما " : هذه الفاء عاطفة هذه الجملة المنفيّة على قول الله تعالى للسَّفلة :" لِكُلِّ ضِعْفٌ " أي : فقد ثَبَتَ أنَّ لا فضل لكم علينا، وأنا متشاوون في استحقاق الضِّعف فذوقوا.
قال أبُو حَيَّان - بعد أنْ حكى بعض كلام الزَّمخشري - : والذي يظهر أنَّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السَّفلة في الدُّنيا بسبب اتباعهم إيَّاهم، وموافقتهم لهم في الكُفْرِ أي : اتِّباعُكم إيّانا، وعدم اتِّباعكم سواء ؛ لأنَّكُم كنتم في الدُّنيا عندنا أقلَّ من أن يكون لكم عيلنا فضِل بأتِّباعكم، بل كفرتم اختياراً، لا أنَّا حملْنَاكم على الكُفْرِ إجباراً، وأنَّ قوله :" فَمَا كَانَ " جملة معطوفة على جُمْلَةٍ محذُوفَةٍ بعد القَوْلِ دَلَّ عليها ما سبق من
١١٠
الكلام، والتَّقديرُ، قالت أولاهم لأخراهم : ما دعاؤكم اللَّه أنَّا أضلنناكم وسؤالكم ما سألتم، فما كان لكم علينا من فضلٍ بضلالكم، وأنَّ قوله :" فَذُوقُوا " من كلام الأولى خِطَاباً للأخرى على سبيل التشفِّي، وأن ذَوْقَ العذاب هو بسبب ما كَسَبْتُمْ لا بأنَّا أضْلَلْنَاكُمْ.
وقيل : فذوقوا من خطاب الله لهم.
و " بِمَا " " الباء " سببية، و " مَا " مصدرية، أو بمعنى " الَّذي "، والعائد محذوف أي : تكسبونه.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١١٠
هذا من تمام وعيد الكُفَّارِ فقوله :﴿كَذَّبُوا بآيَاتِنَا﴾ أي بالدَّلائل الدَّالة التي هي أصول الدِّين فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذَّات والصِّفاتِ، والمشركون ينكرون دلائل إثبات التوحيد، ومنكرو النُّبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحّة النُّبُوَّات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على صحة نبوته، ومنكرو المعاد ينكرون الدَّلائل الدّالة على صحّة المعاد فقوله :﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ بتناولُ الْكُلَّ ومعنى الاستكبار طلب التَّرَفُّع بالبَاطِلِ، وهذا اللَّفظ يَدُلُّ على الذم في حقِّ البَشَرِ.
قوله :" لا تُفَتَّحُ ".
قرأ أبُو عمر :" لا تُفْتَح " بضمّ ِالتَّاء من فوق والتَّخفيف والأخوان بالياء من تحت والتخفيف أيضاً، والباقون : بالتَّأنيث والتشديد.
فالتَّأنْيِثُ والتَّذكير باعتبار الجمع والجماعة، والتخَّفيف والتضعيف باعتبار التكثير وعدمه، والتضعيف هنا أوْضَحُ لكثرة المتعلق، وهو في هذه القراءات مبني للمفعول.
وقرأ أبُو حَيْوَةَ، وأبو البرهسم [ " تَفَتَّح " ] بفتح التَّاء مِنْ فوق والتضعيف، والأصل : لا تتفتح بتاءَيْن فحُذِفت إحداهما، وقد تقدَّم في " ﴿تَتَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام : ١٥٢].
ونحوه، فـ " أبواب " على قراءة أبي حيوة فاعل، وعلى ما تقدَّم مفعول لم يُسمَّ فاعله.
وقرئ :" لا تفتح " بالتاء، ونصب " الأبْواب " على أن الفعل للآيات وبالياء على أن الفعل للَّه ذكره الزمخشري.
١١١