معترضة بينهما، وهذا الوجه أعرب، وإنَّمَا حسن وقوع هذا الاعتراض بين المبتدأ والخبر ؛ لأنَّهُ من جنس هذا الكلام ؛ لأنَّهُ لمَّا ذكر عملهم الصالح ذكر أنَّ ذلك العمل في وسعهم، وغير خارج عن قدرتهم، وفيه تَنْبِيهٌ لكفار على أنَّ الجنَّة مع عظم محلِّها يوصل إليها بالعَمَل السَّهْلِ من غير تحمل الصعب.
فصل في معنى قوله :" وسعها " الوسعُ : ما يقدر الإنسان عليه في حال السِّعة والسُّهولة لا في حال الضّيق والشِّدَّة، ويدلُّ عليه قول معاذِ بْنِ جبلٍ في هذه الآية : إلا يسرها لا عسرها.
وأمَّا أقصى الطَّاقة فلا يسمَّى وسعاً، وغلط من قال : إن الوسع بذلك المجهود.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١١٦
قوله :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم﴾ فالنزع هو بمعنى ينزع فهو على حد ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل : ١]، والنزع : قلع الشَّيء عن مكانه.
وقوله :" مِنْ غِلٍّ " يجوز أن تكون " مِنْ " لبيان جنس " مَا " ويجوز أن تكون حالاً متعلّقاً بمحذوف أي : كائناً من غلٍّ.
الغل : الحِقْد والإحْنَةُ والبُغْض، وكذلك الغُلُولُ.
قال أهل اللُّغَةِ : وهو الذي يغل بلطفه إلى صَميمِ القَلْب أي : يدخلُ، ومنه الغلول، وهو الوصول بالحيلَةِ إلى لاذُّنُوبِ الدقيقة.
ويقال : انغل في الشَّيء، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافته كما يدخل في صميم الفؤادِ وجمع الغل غلال، والغُلُولُ : الأخذ في خُفْيَةٍ، وأحسن ما قيل إنَّ ذلك من لفظ الغلالة كأنّه تدرع ولبس الحِقْدَ والخيانة حتَّى صار إليه كالغلالةِ الملبوسة.
فصل في تأويل الآية.
في الآية تأويلان : أحدهما : أزَلْنَا الأحقادَ التي كانت لبعضهم في دار الدُّنْيَا، ومعنى نزع الغل : تصفية الطِّباع، وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب، فإن الشَّيطانَ لمَّا كان في العذابَ لم يتفرغ لإلقاء الوساوِس في القُلُوبِ، وإلى هذا المعنى أشار عليُّ بْنُ أبي طالب - رضي الله عنه - إذ قال :" إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير من الذين
١١٧
قال الله - جل ذكره - ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ".
والتأويل الثاني : أنَّ المراد منه أن درجات أهل الجنَّة متفاوتة بحسب الكمال والنُّقصان، فاللَّهُ - تعالى - أزَالَ الحسدَ عن قلوبهم حتّى إنَّ صاحب الدّرجة النّازلة لا يحسدُ صاحب الدرجة الكاملة.
قال صاحبُ هذا التأويل : وهذا أوَْى من الوجه الأوَّلِ، حتَّى يكون في مقابلة ما ذكره الله - تعالى - من تبرُّؤ بعض أهل النَّار من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، ليعلم أنَّ حال أهل الجنَّة في هذا المعنى مفارقة لحالِ أهْلِ النَّارِ، فإن قيل : كيف يُعقل أنْ يُشَاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجة العالية، ويرى نفسه مَحْرُوماً عنها، عاجزاً عن تحصيلها، ثم إنَّهُ لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها ؟ فإنْ عُقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً أن يغيرهم الله - تعالى -، ولا يخلق يهم شهوة الأكْل والشّرب والوقاع ويغنيهم عنها ؟.
فالجوابُ : أنَّ الكلّ ممكن، والله تعالى قادر عليه، إلاَّ أنَّهُ تعالى وعد بإزلة الحِقْدِ والحسد عن القلوب، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشّرب عن النُّفوس.
قوله :﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾.
في هذه الجملة ثلاثةُ أوجه : أحدها : أنَّها حال من الضَّميرِ في " صُدُورِهِم "، قاله أبُو البقاء وجعل العَامِلَ في هذه الحال معنى الإضافة.
والثاني : أنَّها حال أيضاً، والعامل فيها " نَزَعْنَا "، قاله الحوفيُّ.
الثالث : أنَّها استئناف إخبار عن صِفَةِ أحوالهم.
وردَّ أبُو حيَّان الوجهين الأوَّلين ؛ أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ معنى الإضافة لا يعمل إلاّ إذا أمكن تجريدُ المضاف، وإعماله فيما بعده رفعاً أو نصباً.
وأما الثاني فلأن ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾ ليس من صفة فاعل " نَزَعْنَا "، ولا مفعوله وهما " نَا " و " مَا " فكيف ينتصب حالاً عنهما ؟ وهذا واضح.
قال شهابُ الدِّين :" قد تقدَّم غيره مرة أنَّ الحال تأتي من المضاف إليله إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمدرك آخر، لا لما ذكره أبو البقاءِ من أنَّ العامل هو معنى الإضافة، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف، وإنْ كانت الحال ليست منه ؛ لأنَّهما لمَّا كانا متضايفين، وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك ".
١١٨