قال عطاءٌ عن ابن عباس :" لما صار أصحاب الأعراف إلا الجنَّة طمع أهل النَّار في الفرجن فقالوا : يا رب، إنَّ لنا قرابات من أهل الجَنَّة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فأمر الله الجنة فتزحزحت فنظروا إلى قراباتهم في الجنة، وما هم فيه من النعيم، فعرفوهم، ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم، فَنَادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾.
قوله :" أنْ أفِيْضُوا " كأحوالها من احتمال التفسير والمصدرية، و " مِنَ المَاءِ " متعلق بـ " أفيضَوا " على أحد وجهين : إمَّا على حذف مفعول أي : شيئاً من الماء، فهي تبعيضية طلبوا منهم البعض اليسير، وإمّا على تضمين " أفِيضُوا " معنى ما يتعدّى بـ " من " أي : أنعموا منه بالفيض.
وقوله :﴿أوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ﴾ " أو " هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين ؛ إمَّا تخييراً، أو إباحة، أو غير ذلك مما يليق بهما، وعلى هذا يقال : كيف قيل : حرَّمهما فأعيد الضَّميرُ مثنى وكان من حق من يقول : إنَّها لأحد الشيئين أن يعود مفرداً على ما تقرَّر غير مّرة ؟ وقد أجابوا بأن المعنى : حرّم كلاًّ منهما.
وقيل : إن " أو " بمعنى الواو فعود الضمير واضح عليه.
و " مِمَّا " " ما " يجوزُ أن تكون موصولة اسميّة، وهو الظَّاهِرُ، والعائد محذوف أي : أو من الذي رزقكموه الله، ويجوزُ أن تكون مصدرية، وفيه مجازان.
أحدهما : أنَّهم طلبوا منهم إفَاضَةَ نفس الرزق مبالغة في ذلك.
والثاني : أن يراد بالمصدر اسم المفعول، كقوله :﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ﴾ [البقرة : ٦٠] في أحد وجهيه.
وقال الزمخشريُّ : أو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غيره من الأشْرِبَةِ لدخوله في حكم الإفاضة ".
ويجوزُ أن يُراد : أن ألْقوا علينا من ما زرقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله :[الرجز].
١٣٣
٢٤٧٤ - عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارداً
.........................
قال أبُوا حيَّان : وقوله :" وألْقوا علَيْنَا مِمَّا رَزَقكُمُ اللَّهُ منَ الطَّعامِ والفاكهة " يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون قوله :" أفيضُوا " ضُمِّن معنى قوله :" ألقوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله " فيصحُّ العطف.
ويحتمل - وهو الظاهر من كلامه - أن يكون أضمر فعلاً بعد " أو " يصل إلى مما رزقكم اللَّهُ، وهو " ألقوا "، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطفَ على شيء بحرف عطف، والفعل لا يصل إليه، والصَّحيحُ منهما التّضميل لا الإضمار.
قال شهابُ الدِّين :" يعني الزمخشري : أن الإفاضة أصل استعمالها في الماء، وما جرى مجراه في المائعات، فقوله :" أو من غيره من الأشْرِبَةِ " تصحيح ليسلّط الإفاضة عليه ؛ لأنَّهُ لو حُمِلَ مما رزقكم اللَّه على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإفاضة إليهما إلاَّ بتجوز، فذكر وجه التجوز بقوله :" ألقوا "، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر، وهو كما قال، فإن العلف لا يُسند إلى الماء فيؤولان بالتضمين أي : فعلفتها، ومثله :[الوافر] ٢٤٧٥ -......................
وَزَجَّجْنُ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٣٣
وقوله :[مجزوء الكامل] ٢٤٧٦ - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا
مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحا
وقوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ﴾ [الحشر : ٩] وقد مَضَى من هذا جملة صالحة ".
وزعم بعضهم أن قوله :﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ عام يندرج فيه الماء المتقدِّم، وهو بعيد أو متعذّر لِلْعَطْفِ بـ " أو ".
والتَّحريم هنا المنع كقوله :[الطويل] ٢٤٧٧ - حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أنْ تَطْعَمَا الكَرَى
..........................
فصل في فضل سقي الماء قال القرطبيُّ :" هذه الآية دليل على أن سقي الماء أفضل الأعمال ".
وقد سئل ابن عباس : أي الصّدقة أفضل ؟ قال : الماء، ألم تروا إلى أهْلِ النَّار حين
١٣٤
استغاثوا بأهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممَّا رزقكم الله.
وروى أبو داود " أن سعداً أتى النبي ﷺ فقال : أي الصدقة أحب إليك ؟ قال : المَاءُ، فَحَفَر بِئراً وقال : هذه لأمِّ سَعْدٍ " فصل في أحقية صاحب الحوض بمائه قال القرطبي :" وقد استدلّ بهذه الآية من قالك إنَّ صاحب الحوض والقربة أحقُ بمائه، وأن له منعه ممن أراده ؛ لأن معنى قول أهل الجنَّة :﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ لاحق لكم فيها ".
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٣٣