إيصالِ العقاب للمذنبينَ في الحالِ، إلاَّ أنَّهُ يؤخرهما إلى أجلٍ معلُومٍ مقدورٍ، فهذا التَّأخِيرُ ليس لأجَلِ أنَّهُ تعالى أهمل العِبَادَ، بل لما ذكرنَا أنَّهُ خصَّ كلَّ شيءٍ بوقُتٍ معيَّن لسابِقِ مشيئتِهِ، فلا يفتر عنه، ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق : ٣٨].
وقال المُفَسِّرُونَ : إنَّهُ تعالى إنَّما خَلق العالمَ في ستَّةِ أيَّامٍ ليعلِّم عباده الرِّفْقَ في الأمُورِ كما تقدَّم عن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ.
وقال آخرون :" إنَّ الشَّيْءَ إذا أحدث دَفْعَةً واحدة ثم انقطع طريقُ الإحداثِ، فَلَعَلَّهُ يَخْطُرُ ببالِ بعضهم أنَّ ذلك إنَّما وقع على سبيل الاتَّفَاقِ، أمَّا إذَا حدثَتِ الأشْيَاءُ على سبيل التَّعَاقُبِ والتَّواصُلِ مع كونها مطابقة للمَصْلَحَةِ والحكمة كان ذلك أقْوَى في الدِّلالةِ على كونِهَا واقعةً بإحداث مُحْدِثٍ حكيم وقادر عليم ".
وعن الرابع : أنَّهُ تعالى ذكر سَائِرَ المخْلُوقَاتِ في سَائرِ الآيات فقال :﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ﴾ [السجدة : ٤].
وقال :﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الفرقان : ٨٥ - ٥٩].
وعن الخامس : قوله أنَّ المراد أنَّهُ تعالى خلق السَّموات، والأرضَ في مقدار سِتَّةِ أيَّام كما تقدَّم.
وقال بعضُ العُلماءِ : المراد بالستَّةِ أيَّامٍ هاهنا مراتب مصنوعاته ؛ لأنَّ قبل الزَّمَانِ لا يمكن تجدد الزَّمَانِ، والمراد بالأيام السَّتَّة : يومٌ لمادة السموات، ويوم لصورتها، ويوم لكمالاتها من الكواكب، والنُّفُوسِ، وغيرها ويوم لمادة الأرْضِ ويوْمٌ لصورتها ويوم لكمالاتها من الجبال وغيرها، فاليَوْمُ عبارة عن الكون الحادث.
وعن السادس : أنَّ قوله :﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر : ٥٠] محمولٌ على إيجاد كُلِّ واحد من الذَّواتِ وعلى إعدام كل واحد منها ؛ لأنَّ إيجاد الموجودِ الواحدِ لا يقبل التَّفَاوُتَ، فلا يمكن تحصيله إلا دفعة، وأمَّا الإمْهَالُ فلا يَحْصُلُ إلاَّ في المدَّةِ.
وعن السابع : أنَّ هذا السُّؤالَ غير وارد، لأنَّهُ تعالى لو أحدثته في مِقْدَارِ آخر من الزَّمانِ لعَادَ السُّؤالُ.
قوله :" ثُمَّ اسْتَوَى " الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّميرِ على الله - تعالى - بالتَّأويل المذكُورِ في البقرةِ.
وقيل : الضَّمِيرُ يعود على الخَلْق المَفْهُوم من " خَلَقَ " ثم اسْتَوَى خَلْقُه على العَرْشِ،
١٤٣
ومثله :﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه : ٥] قالوا : يُحتمل أن يَعثودَ الضَّميرُ في " اسْتَوَى " على " الرَّحْمِن "، وإنْ يعود على الخَلْقِ، ويكون " الرَّحْمن " خبراً لمبتدأ محذوف أي : هو الرَّحْمنُ.
والعرشُ : يُطْلَقُ بإزاء معانٍ كثيرة، فمنه سَرِيرٌ الملكِ، وعليه، ﴿نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا﴾ [النمل : ٤١]، ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾ [يوسف : ١٠٠]، ومنه السُّلْطَان والعزُّ وعليه قول زهير :[الطويل] ٢٤٨١ - تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وقَدْ ثُلأَّ عَرْشُهَا
وذُبْيَانَ إذْ زَلَّتْ بأقْدَامِهَا النَّعْلُ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٤٠
وقول الآخر :[الكامل] ٢٤٨١ - إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ
بِرَبيعَةَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ شِهَابِ
ومنه : خشب تُطوى به البِئرُ بعد أنْ يُطْوى بالحِجَارَةِ أسفلُها ومنه : ما يُلاقِي ظَهْرُ القَدَم وفيه الأصَابع، ومنه : السَّقْفُ، وكلُّ ما علاك فهو عَرْشٌ، فَكَأنَّ المَادَّةَ دائرةُ مع العُلُوِّ والرِّفعة ومنه عَرْشُ الكَرمِ، وعرشُ السِّمَاكِ أرْبَعَةُ كواكب صغار أسفل من العَوَّاء يقال إنَّها عَجُز الأسَدِ.
والعَرْشُ : اسم ملك والعَرْشُ المَلِكُ والسُّلطَانُ.
يقال : قد ذهب عرش فلان أي : ذهب مُلْكُهُ وعِزهُ وسُلْطَانُهُ قال زُهَيْرٌ :[الطويل] ٢٤٨٣ - تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا
وذُبْيَانَ إذْ زَلَّتْ بأقْدَامِهَا النَّعْلُ