قلتُ : إنَّمَا كان ذلك ؛ لأنَّ الجملة القسميَّة لا تساقُ إلا تأكيداً للجملةِ المُقْسَم عليها، التي هي جوابها، فكانت مَظَنَّةً لمعنى التَّوَقُّعِ الذي هو معنى " قَدْ " استماع المخاطب كلمة القسم.
وأما غير الزَّمَخْشَريِّ من النُّحَاةِ فإنَّهُ قال : إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً : فإمَّا أن يكُونَ قريباً من زمن الحال فتأتي بـ " قَدْ " وإلاَّ أتيت باللاَّم وَحْدَهَا فظاهر هذه العبارة جواز الوَجْهَيْنِ باعتبارَيْنِ.
وقال هناهنا :" لقد " من غير عاطف، وفي " هود " [٢٥] و " المؤمنين " [٢٣] : ولقد بعاطف، وأجاب الكَرْمَانيُّ بأن في " هود " قد تقدَّم ذكر الرَّسولِ مرَّات، وفي " المؤمنين " ذكر نُوحٍ ضِمْناً في قوله ﴿وَعَلَى الْفُلْكِ﴾ [غافر : ٨٠] ؛ لأنَّهُ أوَّلُ من صنعها، فحسن أن يُؤتى بالعاطف على ما تقدَّمن بخلافِهِ في هذ السُّورةِ.

فصل هو نُوحُ بْنُ لملك بْنِ متوشلح بْنِ اخنوخ، وهو إدريس وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس.


وقال القُرْطُبِيُّ :" وهو أوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ بعد آدم بتحريم النبات والعمَّاتِ، والخالاتِ، وكان نَجَّاراً، بعثَهُ اللَّهُ إلى قومه وهو ابن خمسين سنة ".
وقال مُقَاتِلٌ :" ابن مِائَةِ سَنَةٍ ".
قال النَّحَّاسُ :" وانصرف ؛ لأنَّهُ على ثلاث أحرف ".
وقال ابن عباس :" سُمِّي نوحاً لكثرة نَوْحِهِ على نَفْسِهِ ".
واختلفُوا في سبب نَوْحِهِ، قال بعضُهُم : لدعوته على قومه بالهلاكِ، وقيل : لمراجعته رَبَّه في شأنِ ابنه كَنْعَانَ.
١٧٥
وقيل : لأنَّهُ مرّ بكلب مَجْذُومٍ فقال : اخْسَأ يا قبيحُ يا كَلْبُ، فأوْحَى الله إليه : أعبتني أم عبت الكلب.
قال ابن عباس :" معنى أرْسَلْنَا : بَعَثْنَا ".
وقال آخرون : معنى الإرسال أنَّهُ تعالى حمَّلُهُ رسالة يُؤدِّيهَا، فارِّسَالةُ على هذا التَّقديرِ تكون متضَمِّنَةً للبعث، فيكونُ البعث كالتَّابشع لا أنَّهُ الأصلِ.
قوله :" فقال يا قوم اعْبُدُو الله " جيء هنا بفاء العطف في قوله :" فَقَال "، وكذا في المؤمنين وفي قصّة هودٍ وصالحٍ وشُعَيْبٍ هنا بغير فِاء، والأصلُ الفاء، وإنَّمَا حذفت تَخْفيفاً، وتوسعاً [و] اكتفاء بالرّبْطِ المَعْنَوِيِّ، وكانت اللواتي بعدها بالحذف أولى.
وأما في هود فيقدَّر قبل قوله :" إنّي لَكُمْ " :" فقال " بالفَاءِ على الأصْلِ.
وجاء هنا :﴿مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ﴾ فلم يعطف هذه الجملة المنفيَّةِ بفاءٍ ولا غيرها، لأنَّهَا مبنية ومثبتة على اختَصَاصِ اللَّهِ - تعالى - بالعبادةِ ورفض ما سواه، فكانت في غايةِ الاتِّصال فقال : يا قَوْمِ اعبدُوا الله.
فصل في بيان نسب " نوح " قال ابن العربيِّ : ومن قال : إن إدْرِيسَ كان قبل نوح فقد وهمَ، بدليل حديث الإسْرَاءِ الصَّحيحن حين لَقِيَ النَّبِيّ ﷺ آدمَ وإدريس، فقال له آدمُ : مرحباً بالنَّبِيِّ الصالح والابن الصالحن وقال له إدريس : مرحباً بالنَّبيِّ الصَّالح، والأخ الصَّالح فلما قال له :" والأخ الصالح " دلَّ على أنَّهُ يجمع معه في نُوح.
قال القَاضِي عياضٌ : جواب الآبَاء هناهنا كَنُوحٍ، وإبراهيم وآدم : مرحباً بالابن الصالح، وقال عن إدريس : بالأخ الصالح كما ذكر عن مُوسَى وعيسى، ويوسف [وهارون ويحيى ممَّنْ ليس بأبٍ للنَّبِيِّ ﷺ باتِّفَاقٍ].
فصل في بيان أجناس البشر قال القُرْطُبِيُّ : ذكر النَّقَّاشُ عن سليمان بن أرقم عن الزهري أنَّ العربَ، وفارسَ والرُّومَ، وأهلَ الشَّامِ واليمن من ولد سام بن نوح، والهند والسِّنْد والزِّنْج، والحبشَة والزُّطّ والنُّوبة وكل جِلْدٍ أسْوَدَ من ولد حامٍ، والترْك، والبربر ووراء النهر والصين، ويأجوج ومأجوج والصَّقَالِبَة من ولد يافثِ بن نُوحٍ، والخلق كلهم ذُرية نُوحٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
١٧٦


الصفحة التالية
Icon