قوله :﴿ما لكم من إله غيره﴾ قرأ الكِسَائِيُّ " غيره " بخفض الرَّاءِ في جميع القُرآنِ، والباقون برفعها، وقرأ عيسى بْنُ عمرَ بنصبها، فالجرُّ على النَّعْتِ والبَدَلِ من موضع " إله " ؛ لأن " مِنْ " مزيدة فيه، وموضعه رفع : إما بالابتداء، وإمَّا بالفاعليةَّ، ومنع مكيٌّ في وجه الجرِّ أن تكون بدلاً من إله على اللَّفْظِ، قال : كما لا يَجُوزُ دخول " مِنْ " لو حذفت المبدل منه ؛ لأنّضاه لا تدخل في الإيجابِ، وهذا كلام متهافت.
والنَّصْبُ على الاستِثْنَاءِ، والقراءتانِ الأوليانِ أرجح ؛ لأنَّ الكلام متى كان غير إيجاب، رجَّح الاتباع على النَّصْبِ على الاستثناء وحكم غير حكم الاسم الواقع بعد " إلاَّ "، و " مِنْ إلهٍ " إذا جَعَلْته مبتدأ فلك في الخبر وجهان : أظهرهما : أنَّهُ " لَكُمْ ".
والثاني : أنَّهُ محذوف، أي : ما لكم من إله في الوجود، أو في العالم غير الله، و " لَكُمْ " على هذا تخصيص وتبيين.
فصل فيما تضمنته الآية من حذف قال الواحِدِيُّ :" في الكلام حذفٌ، وهو خبر ما ؛ لأنَّكَ إذا جعلت غيره صفة لقوله :" إله " لم يبق لهذا المنفي خبر، والكلامُ لا يستقِلُّ بالصِّفةِ والموصوف، فإنَّكَ إذا قلتَ : زيدٌ العاقلُ وسكتَّ لم يُفِدْ ما لم تذكر خبره ويكون التَّقْدِيرُ : ما لكم من إله غيره في الوجود ".
قال ابن الخطيب : اتَّفَقَ النَّحويُّونَ على أنَّ قولنا :" لا إله إلا الله " لا بد فيه من إضمار، والتَّقْديرُ : لا إله في الوجود إلا الله ولا إله لنا إلا الله، ولم يذكروا على هذا الكلام حجَّةً، فنقولُ : لِمَ لا يجوز أن يقال : دخل حرف النَّفي على هذه الحقيقةِ وعلى هذه الماهِيَّةِ، فيكون المعنى أنَّهُ لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حقِّ الله تعالى، وإذا حملنا الكلامَ على هذا المعنى استغنينا عن الإضْمَارِ الذي ذكروه.
فإنْ قالوا : صرف النفي إلى الماهِيَّةِ لا يمكنُ ؛ لأنَّ الحقائِقَ لا يُمْكِنْ نَفْيُهَا، فلا يمكن أن يُقَال : لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهِيَّةِ، وإنَّمَا الممكن أن يقال : إنَّ تلك
١٧٧
الحَقَائِقَ غيرُ موجودة، ولا حاصلة، وحينئذٍ يجب إضمار الخبر فنقول : هذا الكلامُ بِنَاءٌ على أنَّ الماهيَّة لا يمكن انتِفَاؤُهَا وارتفاعها، وذلك بَاطِلٌ قطعاً، إذ لو كان الأمر كذلك ؛ لوَجَبَ امتناعُ ارتفاع الوُجُودِ ؛ لأنَّ الوُجُود أيضاً حقيقة من الحقائق، وماهيّة من المَاهِيَّات ؛ فوجب ألاَ يرتفعَ الوُجودُ أيضاً، فإن أمكن ارتفاع الوُجُودِ مع أنَّهُ ماهيّة وحقيقة فلم لا يمكنُ ارتفعُ سائر الماهيَّاتِ.
فصل في بيان أن المستحق للعبادة هو الله دلَّ ظَاهِرُ الآيةِ على أنَّ الإله هو الذي يستحقُّ العبادة ؛ لأن قوله :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ إثبات ونفي، فيجب أن يتواردا على مَفْهُوم وَاحِدٍ حتى يستقيم الكلامُ، فكان المَعْنَى : اعبدوا الله ما لكم من معبودٍ غيره، حى يَتَطابَقَ النَّفي والإثبات، ثم ثبت بالدَّليل أنَّ الإله ليس هو المعبود، وإلاَّ لوجب كونُ الأصنام آلهة، وألاَّ يكون الإله إلهاً في الأزَلِ، لأنَّهُ في الأزَلِ غير معبود، فوجب حملُ لفظ الإله على أنَّهُ المُسْتَحِقُّ للعبادةِ.
قوله :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
اختلفوا في معنى قوله :﴿إِنِّى أَخَافُ﴾ هل هو اليقين ؟ أو الخوف بمعنى الظنِّ والشكِّ ؟ فقيل : المرادُ : الجزم واليقين ؛ لأنَّهُ كان جازماً أنَّ العذابَ ينزل بهم : إمَّا في الدُّنْيَا، وإمَّا في الآخرة، إن لم يَقْبَلُوا الدَّعْوَة.
وقيل : بل المرادُ منه الشَّكُّ لوجوه :[أحدها] : إنَّمَا قال :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ ؛ لأنَّهُ جوَّزَ أن يؤمنوا، وأن يستمروا على كفرهم، ومع هذا التَّجْويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب، فهذا قال :" أخَافُ عَلَيْكُمْ ".
وثانيها : أنَّ حُصُولَ العذاب على الكُفْرِ والمعصية أمْرٌ لا يعرف إلا بالسَّمْع، فَلَعَلْ الله - تعالى - ما بيّن له كيفيَّة هذه المسألة، فلا جرم جوَّزَ أنَّ الله - تعالى - هل يعاقبهم أم لا ؟.
وثالثها : يحتمل أنْ يكُون المرادُ من الخَوْف الحذر، كقوله في الملائكة :﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن﴾ [النحل : ٥٠] أي يحذرون المعاصي خَوْفاً من العقاب.
ورابعها : أنهُ بتقدير أن يكُون قاطعاً بنُزُولِ العذابِ لكنَّهُ ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب فكان هذا الشَّكُ راجعاً إلى وصف العذاب لا في أصْلِ حصولهِ، والمراد بذلك العذاب إمَّا عذاب يوم القيامة، أو عذابُ الطُّوفان.
فإن قيل : إنه تعالى حكى عن نُوحٍ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - في هذه الآية أنَّهُ أمر قومه بثلاثَةِ أشياء :
١٧٨