الأوَّلُ : أمرهم بعبادة الله، والمقصودُ منه إثبات التَّكليف.
الثاني : أنَّهُ حكم أن لا إله غَيْرُ الله، والمقصودُ منه الإقرار بالتَّوْحيد، ثم قال عقيبَهُ :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، وهذا هو الدَّعوى الثَّالثة، وعلى هذا التَّقديرِ فقد ادَّعى الوحي والنُّبوَّةَ من عند اللَّه، ولم يذكر على صِحَّةِ واحد منها دليلاً ولا حجَّةً، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التَّقْلِيد فهذا باطل ؛ لأنَّ الله - تعالى - مَلأَ القرآنَ من ذمِّ التقليد، فكيف يليق بالرَّسُول المعصوم الدَّعوةُ إلى التقليد ؟ ‍ وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدَّليل، فهذا غير مذكور.
فالجوابُ : أن الله - تعالى - ذكر في أوَّلِ السُّورةِ دلائلَ التَّوحيد والنُّبوَّةِ وصحَّةِ المعاد، وذلك تنبيه منه تعالى على أنَّ أحداً من الأنبياء لا يدعو إلى هذا الأصُولِ إلا بذكر الحُجَّةِ والدَّلِيل أقصى ما في البابِ أنَّهُ تعالى ما حكى عن نُوحٍ في هذا المقام ذكر تلك الدَّلائل لما كانت معلومة.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٧٤
قوله :" قَالَ الم‍َلأ ".
قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر :" المَلَؤُ " بواوٍ، وهي كذلك في مصاحفِ الشَّامِ، وهذه القراءةِ ليست مَشْهُورةٌ عنه قال المفسِّرُونَ : الملأ : الكبراء والسَّاداتُ الذين جعلَوا أنفسهم أضداد الأنبياء، ويدلُّ على ذلك قوله :" مِنْ قَوْمِهِ " ؛ لأنَّهُ يقتضي التَّبْعِيضَ، وذلك البَعْضُ لا بدَّ وأن يكونوا موصوفين بِصِفَةٍ لأجلها استحقُّوا هذا الوَصْفَ بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المَجَالس، وتمتلىء القلوب من هَيْبَتِهِم، وتمتلىءُ الأبصارُ من رُؤيتهم، وهذه الصِّفاتُ لا تحصل إلا في الرُّؤسَاءِ.
قوله :" إنَّا لَنَرَاكَ " يجوزُ أن تكون الرُّؤيَةُ قلبية فتتعدى لاثنين ثانيهما " في ضلالِ "، وأن تكون البَصريَّة وليس بظاهر فالجارُّ حال، وجعل الضَّلالِ ظَرْفاً مبالغة في وصفهم له بذلكَ، وزادوا في المبالغة أكَّدثوا ذلك بأن صَدَّرُوا الجملة بـ " إنَّ " وفي خبرها اللاَّم.
وقوله :﴿لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ﴾ الضَّلالُ، والضَّلالةُ، العدول عن الحق.
فإن قيل : قولهم : إنَّا لنراك في ضلال جوابه أن يقال : ليس في ضلال فَلِمَ أجاب بقوله ﴿لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ﴾.
١٧٩
فالجوابُ أنَّ قوله :﴿لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ﴾ من أحسن الردِّ وأبلغه ؛ لأنَّهُ نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلاً عن أن يحيط به الضلالُ، فكان المعنى : ليس بي نوع من أنْواعِ الضَّلالة ألْبَتَّةَ، فكان هذا أبْلَغَ في عموم السّلب فلو قال : لستُ ضالاًّ لم يُؤدِّ هذا المعنى.
واعلم أنَّ القَوْمَ إنما نسبوا نوحاً في ادِّعَاءِ الرِّسالةِ إلى الضَّلالة لأمور : أحدها : أنَّهُمْ استبعدوا أن يكون للَّهِ رَسُولاً إلى خلقه، لاعتقادهم أن المقصود من الإرْسَالِ التَّكْلِيفُ : والتَّكْلِيفُ لا منفعة فيه للمَعْبُودِ ؛ لأنَّهُ متعالٍ عن النَّفْعِ والضَّرَرِ، ولا مَنْفَعَةَ فيه للعابد ؛ لأنَّهُ فِي الحالِ مضرَّة، وما يوحى فيه من الثَّواب والعقاب فاللَّهُ - تعالى - قادر على تحصيله بغير واسطة تكليفٍ، فيكونُ التَّكليف عبثاً، واللَّهُ منزهٌ عن العَبَثِ.
وثانيها : أنَّهُم وإن جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إلا أنَّهُم قالُوا : ما علمنا حسنه بالعَقْلِ فعلناه، وما علمنا قُبْحَهُ تركناه حَذَراً من خَطَرِ العقابِ، فاللَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن أنْ يكلِّفَ عبده ما لا طاقة له به، وإذا كان رسولُ العقل كافياً، فلا حاجة إلى بعثه رسولاً آخر.
وثالثها : أي بتقدير أنَّهُ لا بدَّ من الرسول، فإرسال الملائكة أولى ؛ لأنَّ مهابتهم أشَدُّ، وطهارتهم أكملُ، وبعهدهم عن الكذب أعْظَمُ.
ورابعها : اعلم أنَّ بتقدير أن يَبْعَثَ رَسُولاً من البشرِ، فلعلَّ القوم اعتقدوا أن الفقيرُ الذي ليس له أتباعٌ، ولا رئاسة لا يليق به منصب الرسالة، أو لعلَّهم اعتقدُوا أنَّ ادعاء نوح الرِّسالة من باب الجُنُونِ وتخييلات الشَّيطان، فلهذه الأسباب حَكَمُوا على نوح بالضَّلالِ، وقد أجابهم نُوحٌ ببقية الآيَةِ على ما يأتي في أثنائها.
ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما نفى العيبَ عن نفسه، وصف نفسه بأشرف الصِّفات وهو قوله :﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ جاءت " لَكِنَّ " هنا أحسن مجيء ؛ لأنَّها بين نقيضين ؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو من أحدَ شَيْئَيْنِ : ضلال، أو هدى، والرِّسَالة لا تجامع الضَّلال.
و " مِنْ رَبِّ " صفة لـ " رَسُول "، و " مِنْ " لابتداء الغاية المجازية.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٧٩


الصفحة التالية
Icon