وأمّا هو فاشتهر في ألْسِنَةِ النُّحَاةِ إنه عَرَبِيٌّ، وفيه نظر ؛ لأن الظَّاهِرَ من كلام سيبويه لمَّا عَدَّه مع نُوح، ولوط أنَّهُ أعجمي، ولأن : أبَا البركاتِ النَّسَّابَةَ الشَّريفَ حكى : أن أهلَ وعلى هذا يكون " هُودُ " أعجمياً، وإنَّمَا صُرِفَ لما ذكر في أخوته نوحٍ ولُوطٍ.
وهود اسمه عابرُ بْنُ شَالِح بْنِ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.
فصل في نسب هود اتَّفقوا [على] أن هوداً ما كان أخاهم في الدِّين، واختلفوا في أنَّه هل كان هناك قَرَابَةٌ أم لا.
قال الكَلْبِيُّ :" كان واحداً منهم ".
وقال آخرون : كان من غيرهم، وذكروا في تفسير هذه الأخوة وجهين : الأول : قال الزَّجَّاجُ : كان من بني آدم، ومن جِنْسِهِمْ، لا من الملائكة، ويكفي هذا القَدَرُ في تسمية الأخوة، والمعنى : أنّا بعثنا إلى عادٍ واحداً من جنسهم، لِيَكُون الفَهْمُ والأنس بكلامه وأفعاله أكْمَلُ، ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل ملك أو جني.
قال ابن إسحاق : وكان أوسطهم نَسَباً، وأفْضَلَهُم حُسْناً.
روي أن عاداً كانت ثلاثَ عَشْرَةَ قبيلةً ينزلون الرِّمال، وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارةٍ، وكانت بلادهم أخصبَ البلاد، فسخط الله عليهم ؛ فجعلهم مفاوز لأجل عبادتهم الأصْنَامَ، ولحق هود حين أهلك قومه بمن آمن معه بِمَكَّةَ، فلم يزالوا بها حتى ماتوا.
الثاني :" أخاهم " أي صاحبهم، ورسولهم، والعرب تسمِّي صاحب القوم أخَا القَوْم، ومنه قوله تعالى :﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف : ٣٨] أي : صاحبتها، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ :" إن أخَا صداء قَدْ أذن " يريدُ صَاحِبَهُمْ.

فصل في مكان قوم عاد اعلم أنَّ عاداً قوماً كانوا باليمينِ بالأحقاف.


قال ابن إسحاق :" والأحقافُ : الرَّمْلُ الذي بين عُمَان إلى حضرموت ".
واعلم أن ألفاظ هذه القصَّةِ موافقة للألْفَاظِ المذكورة في قصَّةِ نوح - عليه السَّلامُ - إلا في أشياء :
١٨٥
[الأول] : أن في قصَّة نُوحٍ :" فقال يا قَوْم " بالفاء، وهنا قال بغير فاء، فالفرق أنَّ نُوحاً - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - كان مواظباً على دعوتهم، وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة، وأما هودٌ فلم يبلغ إلى هذا الحدِّ ؛ فلا جرم جاء بفاء التعقيب في كلام نُوح دون كلام هود.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قُلْتَ : لم حذف العَاطِف من قوله [قال يا قوم] ولم يقل " فقال " كما في قِصَّةِ نوح.
قلت : هو على تَقْدير سُؤالِ سائلٍ قال : فما قال لهم هود ؟ فقيل : له :" قال يا قوم ".
الثاني : قال في قصة نوح :﴿مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف : ٥٩].
وهنا قال :" أَفَلاَ تَتَّقُونَ "، والفرقُ بينهما أنَّ قبل نوح لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعةِ العظيمةِ، وهي الطُّوفَانُ العظيم، فلا جرم أخبر نُوحٌ عن تلك الواقعة فقال :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
وأمّا واقعة هود - عليه السَّلامُ - فقد سبقتها واقعة نوح، وكان عهد النَّاسِ بتلك الواقعة قريباً، فلا جرم قال :" أفَلاَ تَتَّقُونَ " أي : تعرفون أنَّ قوم نوح لمَّا لم يتقوا الله ولم يطيعوه أنْزل بهمْ ذلكَ العذاب الذي اشتهر خَبَرُهُ في الدُّنْيَا، فكان ذلك إشَارَةً إلى التَّخْوِيفِ بتلك الوَاقِعَةِ.
الثالث : قال في قصَّة نُوحٍ ﴿قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ﴾ [الأعراف : ٦٠].
وقيل : في هود :﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ فوصف الملأ بالكُفْرِ، ولم يُوصَفُوا في قصَّة نوح، والفرقُ أنَّهُ كان في أشْرَاف قوم هُودٍ مَنْ آمنَ بِهِ مِنْهُم مرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ أسْلَمَ، وكان يكتمُ إيمانَهُ بخلاف قَوْم نُوحٍ، لأنَّه لم يؤمن منهم أحَدٌ.
قاله الزَّمخشريُّ وغيره، وفيه نَظَرٌ لقوله تعالى :﴿لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود : ٣٦] وقال :﴿وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [هود : ٤٠] ويحتمل أنَّ حال مخاطبة نُوحٍ لقومِهِ لم يُؤمِنْ منهم أحَدٌ بعدُ ثمَّ آمنوا، بخلاف قصَّةِ هود فإنَّهُ حال خطابهم كان فيهم مُؤمن ويحتملُ أنها صفة لمُجَرَّدِ الذَّمِّ من غير قَصْدِ تميزٍ بها.
الرابع : حكي عن قَوْم نُوح قولهم :﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ وحكي عن قوم هُود قولهم :﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [الأعراف : ٦٦] الفرقُ أنَّ نُوحاً خوف الكُفَّارَ بالطُّوفانِ العام وكان مشتغلاً بإعْدَادِ السَّفينةِ، فلذلك قالوا :﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ حيثُ تُتْعِبُ نَفْسَكَ في إصلاح سفينة كبيرةٍ في مفازة ليس فيها قَطْرَةٌ من المَاءِ، ولم يظهر شيءٌ من العلامات تدلُّ على ظهورِ المَاءِ في تلك المَفَازة.
وأمَّا هود فلم يذكر شيئاً إلا أنه زَيَّفَ عبادة الأوثان، ونسب من اشتغل بعبادتها إلى
١٨٦


الصفحة التالية
Icon