السَّفَاهَةِ وقلَّةِ العَقْل، فلَّما سفَّهَهُم قابلوه بمثله، ونسبُوهُ إلى السَّفاهةِ، ثم قالوا :﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ في ادِّعَاءِ الرِّسالة.
قال ابءنُ عبَّاسٍ : في سفاهة أي تدعو إلى دينٍ لا نقر به.
وقيل : في حُمْقِ، وخفَّةِ عَقْلٍ، وجهالةٍ.
﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ اختلفُوا في هذا الظن فقيل : المرادُ القَطْعُ والجزم كقوله تعالى :﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة : ٤٦] وهو كثير.
وقال الحسنُ والزَّجَّاجُ : كان ظنّاً لا يقيناً، كفرُوا به ظانين لا متيقّنين وهذا يَدُلُّ على أنَّ حوصل الشَّكِّ والتَّجويز في أصول الدِّين يوجبُ الكفر.
الخامس : قال نوح - عليه السلامُ - :﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾.
وقال هود عليه السلام :﴿وأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِيْنٌ﴾، فأتى نوح بصيغة الفعل، وهود أتى بصيغة اسم الفاعل، ونوح - عليه السلام - قال :﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وهود لم يقل ذلك، وإنَّما زاد كونه " أمِيناً "، والفرقُ بينهما أنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ القَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذكر في كتاب " دلائِلِ الإعْجازِ " أن صيغة الفعل تدلُّ على التَّجَدُّدِ ساعةً فساعَةً.
وأما صِيغَةُ اسم الفاعِلِ فهي دالَّةٌ على الثَّباتِ، والاستمرار على ذلك الفعل.
وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : إنَّ القَوْمَ كانوا مبالغين في السَّفَاهَةِ على نوح - عليه السَّلام - ثم إنَّهُ في اليوم الثَّاني كان يعودُ إليهم، ويدعوهم إلى الله كما ذكر اللَّهُ - تعالى - عنه في قوله :﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ [نوح : ٥].
فلما كانت عادته - عليه السلام - العود إلى تجديد الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة، لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال :" وأنْصَحُ لَكُمْ ".
وأما قول هود - عليه السلامُ - :﴿وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ فإنَّهُ يَدُلُّ على كونه مثبتاً مستقراً في تلك النَّصِيحَةِ، وليس فيها إعلامُ بأنه سيعود إليها حالاً فحالاً، ويوماً فيوماً.
وأما قول نوح - عليه السَّلامُ - ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وهود - عليه السلام - وصف نفسه بكونه أميناً، فالفرقُ أنَّ نوحاً - عليه السَّلأامُ - كان منصبه في النُّبُوَّةِ أعلى من منصب هود عليه السَّلام، فلم يبعد أن يقال : إن نُوحاً - عليه السلام - كان يعلم من أسرار حكم اللَّهِ ما لا يصلُ إليه هُودٌ، فلهذا أمْسَكَ هود لسانه عَنْ ذكر تلك الجملة، واقتصر على وَصْفِ نفسه بالأمانة ومقصود منه أمور : أحدها : الرَّدُ عليهم في قولهم :﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾.
١٨٧


الصفحة التالية
Icon