وثانيها : أن مدار الرِّسالة والتبليغ عن الله على الأمانة، فوصف نفسه بالأمانةِ تقريراً للرِّسالة والنبوة.
وثالثها : كأنَّهُ قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم، وما وجدتمْ منِّي غدراً ولا مكراً ولا كذباً، واعترفتم لي بِكَوْنِي أميناً، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب ؟ والأمين هو الثقة، وهو فعيل من أمِنَ فهو أمِنٌ وأمين بمعنى واحد.
واعلم أنَّ القومَ لمَّا قالوا له :﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ لم يقابل سفاهتهم بالسَّفاهَةِ، بل قابلها بالحلم، ولم يزد على قوله :﴿لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ﴾، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ترك الانتقام أولى كما قال :﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ [الفرقان : ٧٢].
وقوله :﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ مدح نفسه بأعْظَمِ صفات المَدْحِ، وإنَّمَأ فعل ذلك ؛ لأنَّهُ كان يجب عليه إعلام القوم بذلك، وذلك يَدُلُّ على أنَّ مدح الإنسان لِنَفْسِه في موضع الضَّرُورةِ جائزٌ.
السادس : قال نوحٌ عليه السلامُ :﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ إلى قوله :﴿وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، [وفي قصَّةُ هود حذف قوله :﴿وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، والفرق أنَّهُ لمَّا ظهر في قِصَّةِ نُوح - عليه السلام - أنَّ فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة، لم يكن لإعادته في هذه القصَّة حاجة.
قوله :" إذْ جَعَلَكُمْ " في " إذْ " وجهان : أحدهما : أنَّه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمنتهُ الآلاء من معنى الفعلِ، كأنه قيل :" واذكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عليكم في هذا الوَقْتِ "، ومفعول " اذْكُرَوا " محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك :﴿فَاذْكُرُوا ااْ آلآءَ اللَّهِ﴾، ولأن قوله :﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ﴾، وزادكم كذا هو نفس الآلاء وهذا ظاهر قول الحُوفِي.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ :" إذْ " مفعول " اذْكُرُوا " أي : اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسيمة، وتقدَّم الكلامُ في الخلفاء والخلائف والخليف.
قوله :" فِي الخَلْقِ " يحتملُ أن يراد به المصدر بمعنى في امتداد قامتكم وحسن صوركم، وعظم أجْسَامِكُمْ، ويحتمل أنْ يراد به معنى المفعول به، أي : في المَخْلُوقين بمعنى زادكم في النَّاسِ مثلكم بسطة عليهم، فإنَّهُ لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام.
قال الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ :" كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستُّون ذراعاً ".
وتقدم الكلامُ على " بسطة " في البقرة.
١٨٨
قوله :﴿فَاذْكُرُوا ااْ آلآءَ اللَّهِ﴾، أي : نعمه، وهو جمع مفرده " إلْي " بكسر الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ ؛ كحِملْل وأحْمَالِ، أو " ألْيٌ " بضمِّ الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ : كقُفْل، وأقْفَالٍ، أو " إلى " بكسر الهمزة، وفتح اللام ؛ كضِلَع وأضلاع، وعِنَب وأعْنَاب، أو " ألَى " بفتحهملا كقَفَا وأقْفَاء ؛ قال العْشضى :[المنسرح] ٢٥٠١ - أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ
يَقْطَعُ رِحْماً ولا يَخُونُ ألَى
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٨٤