فصل في جواز البناء الرفيع قال القُرْطُبِي : استدلَّ بهذه الية من أجاز جواز البناء الرفيع كالقُصُور ونحوها، وبقوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف : ٣٢].
وبقوله عليه الصَّلاة والسلام :" إنَّ الله إذَا أنْعَمَ على عَبْدٍ نِعْمَةً يُحِبُّ أنْ يُرَى أثَرُ النِّعْمَةِ عليْهِ " ومن آثار النعمة البناء الحسن، والثياب الحسنة، ألا ترى أنه لو اشترى جارية جميلة بمال عظيم، فإنَّهُ يجوز، وقد يكفيه دون ذلك، فكذلك البناء، وكرهه الحسن وغيره لقوله عليه الصَّلاة والسلام :" إذا أرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ سُوءاً أهْلَكَ مَالَهُ فِي الطِّيْنِ واللَّبنِ " وقوله عليه الصلاة والسلام :" مَن بَنَى فوق مَا يَكْفِيْهِ جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على عُنْقِهِ " قوله :﴿فَاذْكُرُوا ااْ آلآءَ اللَّهِ﴾ أي نعم الله عليكم.
﴿وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ قرأ الأعمش بكسر حرف المضارعة وقد تقدم أن ذلك لغة.
و " مُفْسِدِيْنَ " حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عَامِلِهَا.
و " فِي الأرْضِ " متعلق بالفعل قبله أو بـ " مفسدين ".
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٩٤
قوله :" قَالَ المَلأُ " قرأ ابنُ عامرٍ وحدَهُ " وَقَال " بواو عطف نسقاً لهذه الجملة على ما قبلها، وموافقة لمصاحفِ الشَّام، فإنها مرسومة فيها، والباقون بحذفها : إما اكتفاء بالربط المعنوي، وإمّا لأنَّهُ جواب لسؤال مقدَّر كما تقدَّم، وهذا موافقة لمصاحفهم، وهذا كما تقدَّم في قوله :﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ﴾ [الأعراف : ٤٣] إلا أنَّهُ هو الذي حذف الواو هناك.
قوله :﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ﴾.
السين في " اسْتَكْبَرُوا " و " اسْتُضْعَفُوا " يجوز أن تكون على بابها من الطلب، أي : طلبوا - أولئك - الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف.
ويجوزُ أن يكون " اسْتَفْعَلَ " بمعنى : فعل [كَعَجِبَ] واسْتَعْجَبَ.
واللاَّم في " الذِينَ اسْتَضْعَفُوا " للتبليغ، ويضعف أن تكون للعلّة، والمراد بالذين استكبروا الرّؤساء، وبالذين استضعفوا المساكين.
قوله :﴿لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ بدلٌ من " الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا " بإعادة العامل، وفيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ بدل كلٍّ من كُلٍّ، إن عاد الضَّمير في " مِنْهُم " على قومه، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط، كأنَّهُ قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح.
والثاني : بدلُ بعض من كلٍّ، إنْ عاد الضَّميرُ على المستضعفين، ويكون المستضعفون ضربين : مؤمنين وكافرين، كأنَّهُ قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من الضُّعَفَاءِ دون الكَافِرينَ من الضُّعفاء.
وقوله :" أتَعْلَمُونَ " في محل نصب بالقول.
و " مِن رَّبِّهِ " متعلق بـ " مُرْسَلٌ "، و " من " لابتداء الغاية مجازاً، ويجوز أن تكون صفةً فتتعلق بمحذوف.
واعلم أنَّ المستكبرين لمَّا سألوا المُسْتَضْعفين عن حال صالح وما جاء بهن فأجاب المُسْتَضْعَفُون بقولهم : إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ صالح مؤمنون، أي : مُصَدّقون، فقال المستكبرون : بل نحن كافرون بما آمنتم به، أي : بالذي جاء به صالح.
قوله :﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ﴾ متعلق بـ " مُؤمِنُونَ " قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة.
قوله :" قَالَ الذي " " ما " موصولة، ولا يجوزُ هنا حذف العائد وإن اتحد الجار
١٩٧
للموصول وعائده ؛ لاختلاف العامل في الجارين وكذلك قوله :﴿بِالَّذِى آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾.
قوله :" فَعَقَرُوا النَّاقَةَ " أصل العَقْرِ : كَشْفُ العَراقِيبِ في الإبل، وهو أن يضرب قَوَائمَ البَعِيرِ أو النَّاقَةِ فتقع، وكانت هذه سنتهم في الذَّبْحِ.
قال امرؤ القيس :[الطويل] ٢٥٠٥ - وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي
فَيَا عَجَباً مِنْ رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٩٧
ثم أطلق على كل نَحْرِ " عَقْرٌ "، وإن لم يكن فيه كشف عراقيب تسمية للشَّيء بما يلازمه غالباً، إطلاقاً للمسبّب على مسببّبه هذا قول الازهري.
وقال ابن قتيبة :" العَقْرُ : القتل كيف كان، عَقَرْتُها فهي معقورة ".
وقيل : العقر : الجرح.
وعليه قول امرئ القيس :[الطويل] ٢٥٠٦ - تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا معاً
عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ القَيْسِ فانْزِلِ


الصفحة التالية
Icon